حلّ الشعب المصري في المرتبة الثانية عالميًا بمؤشر العطاء لعام 2025 بنسبة تبرع بلغت 2.45% من دخل الفرد، وهو إنجاز على المستوى الإنساني يعكس طبيعة المصريين المعروفة بالكرم والجدعنة. لكن خلف هذا الرقم قصة أكثر عمقًا: إذ أن السبب الحقيقي وراء هذا التصدر هو سياسات قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي التي أفقدت ملايين المواطنين قوت يومهم، وغياب الدولة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه الفقراء، ما جعل المجتمع المدني والأفراد يقومون بالدور الذي تخلت عنه الحكومة.

 

سياسات التجويع تدفع إلى "الصدقة الإلزامية"

منذ سنوات، أدت التعويمات المتتالية للجنيه، رفع الدعم، وزيادة الضرائب إلى انهيار القدرة الشرائية للأسر المصرية. ونتيجة لذلك:

  • أكثر من 60% من المصريين صاروا تحت خط الفقر أو على مقربة منه.
  • الطبقة الوسطى، التي كانت عماد الاستقرار المجتمعي، تآكلت بفعل الغلاء وانهيار الدخول.
  • الحكومة انسحبت من واجباتها في الصحة والتعليم والدعم، تاركة الملايين يواجهون الجوع والعوز.

هذا الواقع هو ما جعل المصريين الأكثر قدرة ماليًا يضطرون للتبرع ليس بدافع الرفاهية، بل بدافع إنقاذ الفئات التي أفقرها النظام.

 

غياب الدولة وحضور المجتمع

ارتفاع نسب التبرع لم يأتِ من "وفرة اقتصادية"، بل من غياب الدولة عن دورها. فالسلطة التي أنفقت المليارات على القصور والعاصمة الإدارية تجاهلت إطعام الفقراء، وتركت مهمة الحماية الاجتماعية على عاتق المجتمع المدني والأفراد.

المبادرات الخيرية مثل شنطة رمضان وموائد الرحمن باتت بديلًا عن برامج الدعم الرسمية.

التبرعات للدواء والعلاج أصبحت ضرورة مع تدهور المنظومة الصحية الحكومية.

بهذا المعنى، فإن المركز الثاني عالميًا في العطاء ليس مدعاة فخر للنظام، بل شهادة إدانة له، لأنه أجبر الشعب على تحمل مسؤوليات الدولة.

 

كرم المصريين.. مقاومة للفقر المفروض

المصريون لم يتخلوا عن بعضهم رغم قسوة الظروف. هذا الكرم الشعبي المتأصل تحوّل إلى وسيلة لمقاومة الفقر المفروض قسرًا. فبينما يغيب النظام عن دوره، يبرز التكافل الاجتماعي كخط الدفاع الأول.
المواطن البسيط الذي يقتطع من دخله المتواضع ليطعم جاره أو يعالج قريبًا، يثبت أن روح التضامن أقوى من سياسات الإفقار.

لكن استمرار الوضع بهذا الشكل ينذر بأن يتحول العطاء إلى "صدقة إلزامية" تُخفي فشل الدولة بدلًا من أن يكون فضيلة اختيارية.

وأخيرا فالنتائج التي أظهرها مؤشر العطاء العالمي تكشف مفارقة كبيرة: شعب يُفقره نظامه لكنه يظل كريمًا في مواجهة الجوع والفقر الذي صنعته سياسات السيسي. ما تحقق ليس نجاحًا للسلطة، بل دليل على أن المصريين أنقذوا أنفسهم عبر التكافل بعدما غابت الدولة عن دورها. وإذا استمرت هذه السياسات، فإن "الجدعنة" وحدها لن تكفي لحماية الملايين من السقوط في هاوية أعمق من الفقر.