يُحيي العالم في 10 سبتمبر من كل عام "اليوم العالمي لمنع الانتحار"، وهو مناسبة للتذكير بأهمية الصحة النفسية وضرورة التصدي للأسباب التي تدفع الأفراد إلى إنهاء حياتهم.
وفي مصر، تحوّل هذا اليوم إلى جرس إنذار متكرر، مع تزايد أعداد المنتحرين بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، وسط ظروف معيشية واقتصادية خانقة منذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم.
 

216 حالة موثقة.. والعدد الحقيقي أكبر بعشر مرات
بحسب تقرير صادر عن المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، تم توثيق 216 حالة انتحار في مصر خلال عام 2024، بناءً على ما نشرته المواقع الصحفية المحلية.
لكن المؤسسة شددت على أن الرقم الحقيقي أكبر بكثير، متوقعة أن يكون على الأقل عشرة أضعاف الرقم المعلن، نظرًا لأن الحكومة لا تنشر بيانات رسمية، رغم امتلاك وزارتي الصحة والداخلية لمعلومات دقيقة.

هذا الغياب المتعمد للشفافية يجعل من الصعب تقييم حجم الأزمة بدقة، لكنه يكشف في الوقت نفسه عن تقاعس الدولة في التعامل مع القضية باعتبارها تهديدًا خطيرًا للتماسك الاجتماعي.
 

الجيزة في الصدارة.. وظاهرة تمتد لكل المحافظات
جغرافيًا، جاءت محافظة الجيزة في المركز الأول بواقع 78 حالة (36.1%)، تلتها القاهرة بـ39 حالة (18.05%)، ثم سوهاج بـ32 حالة (14.8%)، وهي محافظات تعكس التركيبة السكانية الكثيفة والضغوط الاقتصادية.
كما سجلت المنيا 16 حالة والدقهلية 14 حالة، بينما بلغت حصيلة محافظات القاهرة الكبرى (القاهرة، الجيزة، القليوبية) وحدها 121 حالة بنسبة 56% من الإجمالي.

هذا التوزيع يظهر أن الظاهرة ليست حكرًا على الريف أو الحضر، بل باتت عامة وشاملة، حيث رُصدت حالات في الوجه القبلي (68 حالة)، والوجه البحري (21 حالة)، وحتى المحافظات الحدودية (4 حالات).
 

الشباب في المقدمة.. والوسائل صادمة
من حيث الفئات العمرية، جاءت الفئة 21-30 عامًا في الصدارة بـ64 حالة (29.6%)، تليها الفئة الأقل من 18 عامًا بـ40 حالة (18.5%)، ما يكشف أن الشباب والمراهقين هم الأكثر عرضة للانتحار في ظل انعدام الأفق وضغوط المعيشة.

أما الوسائل، فقد تصدّر الشنق القائمة بـ101 حالة (46.7%)، يليه القفز من أماكن مرتفعة (43 حالة)، ثم تناول المواد السامة وحبوب الغلة (45 حالة). هذه الأساليب القاسية تعكس درجة الإحباط واليأس لدى الضحايا.
 

أسباب عميقة مرتبطة بواقع سياسي واقتصادي خانق
التقرير أرجع الظاهرة إلى أسباب نفسية واجتماعية متعددة، أبرزها الاكتئاب، الخلافات الأسرية والزوجية، الإدمان، المشكلات الدراسية، والصعوبات العاطفية.
لكن اللافت أن جزءًا كبيرًا من الأسباب يرتبط بشكل مباشر بالأوضاع الاقتصادية، حيث دفع الغلاء وتدهور مستوى المعيشة آلاف الشباب إلى حافة الانتحار.

ففي عهد السيسي، ارتفعت معدلات التضخم لمستويات قياسية، وتضاعفت الأسعار بعد قرارات متتالية بتحرير سعر الصرف، بينما تآكلت دخول الطبقة الوسطى والفقيرة.
وفي ظل غياب مظلة حماية اجتماعية حقيقية، تحولت الأزمات المالية إلى أحد أهم دوافع الانتحار.
 

غياب استراتيجية وطنية.. و"كفاية هري"
رغم فداحة الأرقام، لا تزال الدولة المصرية تتعامل مع الظاهرة باستهانة، مكتفية بخط ساخن تابع للأمانة العامة للصحة النفسية، وهو ما وصفه مدير المؤسسة، شريف هلالي، بأنه غير كافٍ ويحتاج لتقييم حقيقي.
وأكد هلالي أن غياب موقف حكومي جاد وعدم إعلان بيانات دقيقة يعمّق المشكلة، داعيًا لإطلاق استراتيجية وطنية بالتعاون بين وزارات الصحة والتعليم ونقابة الأطباء ومنظمات المجتمع المدني.

لكن على النقيض، فإن الخطاب الرسمي للنظام يعكس استخفافًا واضحًا بالأزمات الاجتماعية، حيث اشتهر السيسي بعبارات مثل: "محدش ياكلكوا.. بطلوا هري"، وهي عبارات يرى معارضون أنها تكشف عن انفصال تام عن الواقع ومعاناة الناس، خاصة في قضايا حساسة مثل الصحة النفسية والانتحار.
 

أزمة صامتة تهدد المستقبل
يؤكد خبراء علم الاجتماع أن الانتحار ليس مجرد أرقام فردية، بل مؤشر على تفاقم الإحباط الجماعي في المجتمع.
ومع اتساع الظاهرة بين الشباب والمراهقين، فإنها تشكل تهديدًا مباشرًا لرأس المال البشري الذي يفترض أن يقود التنمية.

وفي اليوم العالمي لمنع الانتحار، يصبح السؤال الملح: هل تستمر الحكومة في التعتيم والتجاهل، أم تعترف أخيرًا بأن السياسات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة منذ 2014 دفعت قطاعات واسعة من المصريين إلى فقدان الأمل في المستقبل؟