مرة أخرى تثبت الحكومة المصرية أنها لا تتحرك وفق رؤية اقتصادية واضحة، بل تكتفي بقرارات مرتبكة تُدار بمنطق رد الفعل.
فقرار تأجيل زيادة أسعار الكهرباء، الذي كان من المفترض تطبيقه هذا العام، يكشف أن السلطة لا تبني سياساتها على أسس الصالح العام أو المصلحة طويلة الأمد، بل على اعتبارات مؤقتة تتعلق بامتصاص الغضب الشعبي أو تلافي ضغوط اللحظة.

هذه العشوائية لا تنعكس فقط على حياة المواطنين المثقلين بأعباء الغلاء، بل تمتد آثارها إلى الموازنة العامة للدولة، وإلى ثقة المستثمرين في سوق المال، الذي يعاني أصلًا من ضعف السيولة وهشاشة البنية المؤسسية.
 

يمنى الحماقي: المواطن هو الخاسر الأكبر
ترى الدكتورة يمنى الحماقي، أستاذة الاقتصاد بجامعة عين شمس، أن قرارات الحكومة الأخيرة تعكس تخبطًا واضحًا، وأن المواطن البسيط هو الذي يتحمل النتيجة النهائية دائمًا.

تقول الحماقي إن "التعويمات المتتالية وفقدان السيطرة على الأسعار أفقرت الطبقة المتوسطة، وتأجيل رفع الكهرباء ليس حلاً، بل مجرد تسكين للألم سرعان ما يتبخر أثره مع موجات التضخم الجديدة".
وتشير إلى أن الحكومة لا تقدم بدائل حقيقية، مثل تحسين كفاءة الدعم أو تخفيف أعباء الإنتاج، بل تكتفي بسياسة التأجيل التي لا توقف نزيف الفقر ولا تعالج الاختلالات المالية.
 

هشام إبراهيم: الموازنة في مأزق مستمر
أما الدكتور هشام إبراهيم، أستاذ التمويل والاستثمار بجامعة القاهرة، فيرى أن القرار سيضع الموازنة العامة في وضع أكثر هشاشة.
ويوضح أن "تكلفة إنتاج الكهرباء ترتفع مع زيادة أسعار الغاز والوقود عالميًا، وكل تأجيل لتحريك الأسعار يعني أن الدولة تتحمل فروق التكلفة، وهو ما يفاقم عجز الموازنة".

ويضيف أن استمرار هذه السياسة يضر بسمعة مصر أمام صندوق النقد الدولي، الذي ينتظر خطوات جدية لإصلاح منظومة الدعم.
وبحسب إبراهيم، فإن "الرسالة التي تصل للمؤسسات الدولية الآن أن الحكومة غير قادرة على اتخاذ قرارات صعبة، وأنها تقدم الحلول السياسية على الإصلاح الاقتصادي الحقيقي".
 

رضوى السويفي: البورصة تعكس فقدان الثقة
من جانبها، تؤكد رضوى السويفي، الخبيرة الاقتصادية ورئيسة قسم البحوث في بنك فاروس سابقًا، أن سوق المال المصري أصبح مرآة لحالة عدم اليقين التي تخلقها القرارات العشوائية.

تقول السويفي: "المؤشرات قد تُظهر صعودًا وقتيًا، لكن ضعف السيولة يعني أن هذا الصعود غير مستدام".

وتشدد على أن المستثمرين المحليين والأجانب يترددون في ضخ الأموال في البورصة بسبب غياب الرؤية، وعدم استقرار السياسات المالية والنقدية، إضافة إلى التخوف من قرارات ضريبية مفاجئة.
وترى أن الحكومة إذا أرادت إنعاش السوق، فعليها أن تقدم رسائل ثقة واضحة، وليس مجرد تأجيل زيادات أو وعود فضفاضة بالطروحات.
 

ممدوح الولي: المواطن بين المطرقة والسندان
الخبير الاقتصادي ممدوح الولي يربط بين القرار الحكومي وأوضاع المعيشة اليومية. فهو يرى أن "التأجيل لا يعكس حرصًا على المواطن بقدر ما يعكس خوفًا من رد الفعل الشعبي".
ويؤكد أن المواطن يعيش حالة من القلق المستمر: فهو يعلم أن الزيادة مؤجلة وليست ملغاة، وبالتالي يتوقع صدمة مقبلة في أي وقت.

ويضيف الولي أن الحكومة تعتمد دائمًا على جيب المواطن لسد العجز، سواء من خلال الضرائب غير المباشرة، أو الرسوم، أو رفع الأسعار التدريجي.
ومع غياب سياسات إنتاجية حقيقية تعزز الدخل القومي، يظل المواطن بين المطرقة والسندان: إما الزيادات المؤجلة أو التضخم المتصاعد.

وفي النهاية فتأجيل رفع أسعار الكهرباء قد يبدو للوهلة الأولى قرارًا رحيمًا بالمواطنين، لكنه في حقيقته يفاقم الأزمات: يزيد العجز في الموازنة، يضعف ثقة صندوق النقد، ويؤكد للمستثمرين أن الحكومة تتحرك بلا خطة واضحة.
آراء الخبراء تكشف أن هذه السياسات العشوائية لا تؤدي إلا إلى فقدان الثقة، داخليًا وخارجيًا، وتضع المواطن في مواجهة مباشرة مع أعباء متجددة.
الحل ليس في التأجيل ولا في تحميل المواطن مزيدًا من الفواتير، بل في وضع سياسات اقتصادية متماسكة تُبنى على الشفافية، وتوازن بين العدالة الاجتماعية والاستدامة المالية.