تحوّل عيد الفلاح المصري، الذي يُفترض أن يكون مناسبة للاحتفاء بالمزارعين ودورهم في إطعام ملايين المصريين، إلى يوم يطغى عليه القلق وعدم اليقين. فبالتزامن مع افتتاح إثيوبيا رسميًا لسد النهضة، تصاعدت المخاوف من انعكاسات المشروع على مستقبل الزراعة والأمن المائي والغذائي في مصر، مما جعل المناسبة أقرب إلى جرس إنذار حول مستقبل الفلاح لا إلى يوم احتفال بإنجازاته.

لقد ارتبط الفلاح المصري تاريخيًا بنهر النيل كرمز للعطاء والخير، والآن يجد نفسه مهددًا بفقدان مصدر حياته الأول، وسط شعور متنامٍ بأن الحكومات المتعاقبة عجزت عن حماية هذا الحق التاريخي.

 

تهديد استراتيجي لأمن مصر المائي

يرى خبراء أن سد النهضة لا يمثل مجرد مشروع تنموي إثيوبي، بل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي المصري. فقد وصف الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري، أحمد بهاء الدين شعبان، السد بـ"سد الخراب"، محذرًا من أن المشروع يحاصر البلاد بين الجوع والعطش ويضاعف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. ويعزو شعبان ما وصلت إليه الأزمة إلى فشل دبلوماسي مصري طويل الأمد، تمثل في استبعاد الخبراء من إدارة الملف، ما أتاح لإثيوبيا استغلال موارد النيل دون قيود حقيقية.

كما يشير محللون إلى أن إثيوبيا استطاعت أن تسوق مشروعها كرمز للنهضة الوطنية والتنمية، في حين عجزت مصر عن إقناع العالم بعدالة قضيتها وحقوقها التاريخية.

 

أزمة زراعية متفاقمة

التقارير الدولية، ومنها تقرير لوكالة "فيتش سوليوشنز"، تؤكد أن مصر ستشهد تراجعًا في إنتاجية محاصيل استراتيجية كالقمح والذرة والأرز بسبب نقص مياه الري. ومع ارتفاع عدد السكان إلى أكثر من 110 ملايين نسمة، يزداد اعتماد البلاد على الاستيراد، حيث يُتوقع أن تستورد مصر نحو 13  مليون طن قمح في موسم 2025/2026، رغم زيادة طفيفة في إنتاج الشتاء بنسبة 1%.

وتترافق هذه الأزمة مع تدهور خصوبة الأراضي الزراعية نتيجة الاستخدام المفرط للمياه الجوفية ومبيدات الآفات، فضلًا عن تآكل مساحة الأراضي الخصبة بسبب التوسع العمراني العشوائي. هذا يعني أن الفلاح المصري يواجه تحديًا مزدوجًا: نقص المياه من جهة، وتقلص الأراضي المنتجة من جهة أخرى.

 

مخاطر انهيار السد و"الغموض الاستراتيجي"

يحذر أستاذ الجيولوجيا عباس شراقي من المخاطر الكارثية المحتملة لانهيار السد نتيجة تخزين 74 مليار متر مكعب من المياه في منطقة زلزالية نشطة. ويؤكد أن أي خلل طبيعي أو هجوم إرهابي قد يؤدي إلى كارثة مائية وبشرية في مصر والسودان على حد سواء.

أما أستاذ الأراضي والمياه نادر نور الدين، فيؤكد أن المضي في سياسة التعبئة الأحادية يضع مصر في حالة "غموض استراتيجي"، حيث لا يمكنها التنبؤ بكمية المياه التي ستصلها كل عام.

هذا الغموض يعطل أي خطط طويلة المدى لإدارة الموارد الزراعية والمائية، ويضاعف المخاطر المرتبطة بالزراعة في الدلتا ووادي النيل. ويضيف أن مصر دخلت رسميًا مرحلة "الفقر المائي"، حيث انخفض نصيب الفرد إلى أقل من 500 متر مكعب سنويًا، أي أقل من نصف خط الفقر المائي الذي حددته الأمم المتحدة.

 

ضعف كفاءة الري وارتفاع التكاليف

يرصد نور الدين ضعف كفاءة استخدام المياه في الزراعة، مشيرًا إلى أن الحكومة عاجزة عن تمويل مشروعات التوسع في أنظمة الري الحديث بالأراضي القديمة. كما أن المزارعين غير قادرين على تحمل تكاليف التحول إلى الري بالتنقيط أو الزراعات المغطاة.

وقد زادت الأزمة تعقيدًا بفعل انهيار قيمة الجنيه وارتفاع معدلات التضخم وأسعار المواد الخام، مما عرقل مشروعات تطوير الري المطروحة بالتعاون مع البنك الدولي. كما أن غياب الدعم الفني والتدريب يجعل المزارعين يترددون في تبني أساليب حديثة قد تزيد الإنتاجية على المدى الطويل.

 

معادلة ضغوط داخلية وخارجية

رغم إدراكها للمخاطر، تبدو قدرة مصر على الضغط على إثيوبيا محدودة للغاية، خاصة بعد اكتمال بناء السد وحصول أديس أبابا على دعم مالي واسع من صندوق النقد والبنك الدوليين، بالإضافة إلى دعم سياسي من الولايات المتحدة ودول أوروبية والإمارات، فضلًا عن مساندة الصين وروسيا وعدد من جيرانها الأفارقة.

ويزيد المشهد تعقيدًا دخول إسرائيل على خط الأزمة، بطلبات منحها تسهيلات من القاهرة للحصول على حصة من مياه النيل القادمة من إثيوبيا، وهو ما يعكس أبعادًا إقليمية خطيرة للصراع على المياه. وتخشى دوائر سياسية مصرية أن يتحول الملف إلى ورقة مساومة دولية، تُستخدم للضغط على القاهرة في قضايا أخرى تتعلق بالاقتصاد أو الأمن الإقليمي.

 

بين الجوع والعطش: مستقبل الفلاح المصري

في ظل هذه المعطيات، يجد الفلاح المصري نفسه في قلب المعادلة الصعبة. فهو مطالب بزيادة الإنتاج رغم ندرة المياه وارتفاع تكاليف الزراعة وتراجع الدعم الحكومي. ومع ذلك، يظل صامدًا في مواجهة أزمة متعددة الأبعاد تجمع بين المخاطر البيئية والتحديات الاقتصادية والضغوط السياسية.

ورغم قسوة التحديات، يرى بعض الخبراء أن الفرصة لا تزال قائمة عبر إصلاح شامل للقطاع الزراعي، يتضمن تحسين أنظمة الري، وتوسيع الاستثمار في محطات تحلية المياه، ودعم المزارعين بالتكنولوجيا الحديثة. فالفلاح المصري يملك تاريخًا من الصمود، لكن نجاحه يتوقف على وجود إرادة سياسية جادة تعيد له مكانته ودوره الحيوي.

 

خاتمة: عيد بطعم التهديد

هكذا تحوّل عيد الفلاح المصري، الذي يُفترض أن يكون مناسبة للاحتفال بعصب الاقتصاد الوطني، إلى عيد بطعم التهديد. فبين سد النهضة الذي يهدد بقطع شريان الحياة عن مصر، والأزمات الداخلية التي تثقل كاهل المزارعين، يقف الفلاح المصري اليوم على خط المواجهة الأول في معركة البقاء، فيما يظل مستقبل الأمن المائي والغذائي للبلاد مرهونًا بقدرتها على إدارة هذه الأزمة المصيرية بحكمة وشجاعة.