تعرف مصر منذ سنوات أزمة حادة تتعلق بسد النهضة الإثيوبي الذي أقدم نظام السيسي على الاعتراف بمشروع بناءه عام 2015 بتوقيعه اتفاق المبادئ مع إثيوبيا والسودان، وهو ما مثّل نقطة تحوّل في قضية المياه النيلية التي اعتُبرت حياة لمصر وشعبها الذي يتجاوز 105 ملايين نسمة.

رغم محاولات النظام تصوير نفسه صامدًا في مواجهة الأزمة، إلا أن الواقع يكشف عن فشل ذريع في حماية حق مصر المائي التاريخي، إذ أتمت إثيوبيا الملء الخامس للسد في سبتمبر 2024، وتلاه التشغيل الرسمي للسد في سبتمبر 2025، مما أحدث تغيرًا جذريًا في ملف المياه والنفوذ الإقليمي في حوض النيل.

 

لماذا ظهرت البكائيات والتحديات المصطنعة؟

بعد إتمام إثيوبيا الملء الخامس وتشغيل السد، بدأت حكومة الانقلاب تنزل إلى الشارع والإعلام بموجة من البكائيات والتصريحات المترددة التي تعكس ضعف الموقف، وليست تعبيرًا عن أزمة حقيقية في الوقت المناسب، وإنما محاولة لتغطية إنجاز إثيوبيا في فرض الأمر الواقع.

نظام الانقلاب الذي وقع على اتفاق مبادئ 2015 والذي أعطى إثيوبيا الحظ الأوفر في بناء السد لم يستثمر أي أدوات ضغط فعلية ولم يلجأ لأي إجراءات حازمة، بل اقتصرت ردوده على تكرار التهديدات الكلامية والتبرير الإعلامي.

كما ظهرت التحديات المصطنعة كاستعراض إعلامي مصحوب بمنشورات وتصريحات رسمية توصي بالثقة في الدولة رغم كل الفشل، وهو ما يراه مراقبون محاولة لتزييف الحقائق وإرباك الشارع تحت مظلة "الحفاظ على الأمن القومي" حسب تعبير وزارة الخارجية وحكومة الانقلاب.

 

ما الخيارات الحقيقية أمام القاهرة؟!

لا التكتيكات الرعناء والتصعيد الإعلامي وحده لا يعيد مياهاً أو يحقق اتفاقية تشغيل ملزمة، الحقائق التقنية والقانونية الآن أقل مرونة: تشغيل سد بطاقة تشغيلية (حتى لو تولد تدريجياً) يعني أن الواقع المائي تعايشته إثيوبيا خلال السنوات الأخيرة؛ أي أن الهجوم الإعلامي لا يغيّر معادلات ملء الخزان أو القدرة التوليدية.

من ناحية عملية، الخيارات الحقيقية أمام القاهرة تشمل:

(1) تجديد المسار الدبلوماسي بقواعد تفاهم ملزمة.

(2) التحضير لسيناريوهات إدارة الطلب المائي داخليًا (تحسين كفاءة الري، ملاقاة بدائل).

(3) البحث عن تعويضات/اتفاقات طاقة متبادلة قد تحول التهديد إلى منفعة اقتصادية وليس رفع نبرة الخوف وحدها.

 

هل تجدي هذه التحديات وقد فات الأوان؟

الأرقام والتطورات الميدانية تؤكد أن فرص مصر باتت محدودة بعد فتح إثيوبيا بوابة السد نهائيًا في الخامس من سبتمبر 2025، مع ملء خزان بحجم 70 مليار متر مكعب، وقد أعلنت إثيوبيا دعمها لإتمام خطة بناء أكثر من 100 سد لتحقيق التفوق المائي في المنطقة.

تدخلات مصر الدبلوماسية والحملات الإعلامية لم تمنع إثيوبيا من إنشاء حقائق مائية يحكمها النيل الأزرق كبحر إثيوبي بحكم الأمر الواقع، فيما لم تتخذ القاهرة أي خطوات عسكرية أو ضغط دولي قادر على وقف المشروع.

 وبالتالي فإن التحديات السياسية والإعلامية والتظاهرات الحكومية الآن تبدو بمثابة "بكائيات لاحقة" بدون جدوى حقيقية، وخصوصًا مع تكرار فشل جولات التفاوض التي أعلنت وزارة الري المصرية عن فشلها مرات عدة بحجة العناد الإثيوبي، ما يجعل الأوان قد فات لحماية المياه والحقوق التاريخية.

 

ماذا سيترتب على ذلك؟

التشغيل الكامل للسد يشكل تهديدًا وجوديًا لأمن مصر المائي، والذي يعتمد على مياه نهر النيل بنسبة تصل إلى 97%، وإذا استمرت إثيوبيا في سد منابع النيل وفرض مواقف أحادية، فقد تواجه مصر مخاطر كبيرة تشمل:

  • نقص المياه للزراعة التي توظف ملايين المصريين مما يهدد الأمن الغذائي.
  • انخفاض شديد في المياه الصالحة للشرب مع زيادة أعباء السكّان.
  • تأثير سلبي اقتصادي كبير بسبب فقدان الري والنقل النهري.
  • تصعيد سياسي وأمني بإمكانه أن يغذي النزاعات الإقليمية مع دول المنبع والسد.

نظام السيسي الذي يكرر خطابات "التهديد" من الخارج وتحذيرات من فقدان نصف شعب مصر لمصادر المياه يفتقد للخطة الواضحة والحازمة وهو محاصر بمواقف ضعيفة إعلاميًا وسياسيًا مما يعمّق الأزمات الداخلية، ويزيد من استياء الشعب والفلاحين.

رغم كل هذا الزخم من التحديات، خرجت أصوات محسوبة على النظام لتتبرأ من فشل السيسي في حماية مصر، وبدأت في تلميع صورته عبر الإعلام الحكومي والمقربين وقالت إن "السيسي حل الأزمة" و"يسير في الطريق الصحيح"، مع تصعيد شديد ضد جهات المعارضة التي تُحمّل مسؤولية القضية لهم رغم سيطرة النظام الكاملة على الملف منذ 2015.

وزير الخارجية بدر عبد العاطي أكد أن خارطة الطريق هي التفاوض الدبلوماسي مع إثيوبيا وأن مصر لن تسمح بالمساس بحصتها التاريخية لكنها تلتزم بالقانون الدولي مع حق الدفاع المشروع.

إعلام النظام خصوصًا الصحف الرسمية ووسائل الإعلام المرئية مثل "الأهرام" و"اليوم السابع" عمد إلى ترويج رسائل مطمئنة للشعب وللعالم بأن النظام متحكم بالملف وأن السد لن يؤثر على حياة المصريين.

تصريحات إثيوبية مثل رئيس الوزراء آبي أحمد تبرز الإنجاز الإثيوبي وتبرر المضي قدما في بناء المزيد من السدود بتصريحات اعتبرتها مصر إعلانا للسيطرة المائية.

سد النهضة يمثل اختبارًا قاسياً لمصر، وهو يمثّل فصلاً جديدًا من الفشل السياسي، الاقتصادي، والمائي الذي أصاب البلاد، وظهور البكائيات والتحديات المصطنعة ليس إلا مسرحية إعلامية لتغطية الإخفاقات، في ظل فقدان الكل أدوات الضغط الحقيقية ومحدودية خيارات الرد، وحان الوقت لإعادة النظر في إدارة السيادة المصرية وحماية الحقوق، بعيدًا عن المراوغات والكذب الإعلامي، في قضية مصيرية تمس حياة ومصير أكثر من 100 مليون مصري.