الهجوم الإسرائيلي الأخير على الدوحة، الذي استهدف قيادات من حركة حماس، لم يكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل محطة فارقة كشفت إلى أي مدى باتت السيادة العربية مستباحة بلا رادع. فالهجوم جاء في قلب العاصمة القطرية، وعلى مقربة من سفارات ودبلوماسيين أجانب، وفي ظل وجود عسكري أمريكي ضخم بقاعدة العديد. ومع ذلك، لم يُسمع سوى إدانة قطرية رسمية لم تجد من يساندها، فيما فضّلت غالبية العواصم العربية الصمت المطبق. هذه اللحظة الصادمة تطرح سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن للدول التي هرولت نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني أن تواصل هذا الطريق، بينما إسرائيل تثبت يوماً بعد يوم أنها لا تحترم لا سيادة ولا أمن أحد؟

 

قصف الدوحة: رسالة استباحة للجميع

إسرائيل باغتيالها في قطر، وبعد اغتيالها إسماعيل هنية في طهران قبل أسابيع، وجهت رسالة واضحة: أي دولة تؤوي أو تدعم أو تسمح بوجود قيادات فلسطينية ستكون هدفاً مشروعاً. هذا الإعلان العملي عن "اليد الطولى" يعكس بلطجة سياسية وعسكرية غير مسبوقة. الأخطر أن العملية تمت بتنسيق أمريكي معلن، حيث كشفت تسريبات أن واشنطن كانت على علم مسبق بالهجوم. ما يعني أن العرب أمام مشهد جديد: إسرائيل تضرب حيث تشاء، وأمريكا تغطي، والدول العربية المطبعة تلوذ بالصمت المذل.

 

المطبعون في مأزق أكبر من الصمت

المطبعون اليوم يواجهون معضلة أخلاقية وسياسية. كيف يمكن لحاكم عربي أن يبرر استمرار التطبيع، بينما الطائرات الإسرائيلية تضرب عاصمة عربية دون أن تكترث لأبسط مفاهيم السيادة؟ هل يملك هؤلاء الجرأة لشرح شعارات "السلام" و"التعاون" لشعوبهم، بعد أن تحولت الدوحة نفسها إلى ساحة اغتيال علني؟

المفارقة أن بعض المطبعين برروا انفتاحهم على تل أبيب بذريعة "الاستقرار الإقليمي" و"الفرص الاقتصادية". لكن أي استقرار يمكن الحديث عنه، وإسرائيل نفسها تفتح جبهات في كل مكان: من غزة إلى لبنان، ومن طهران إلى الدوحة؟ إن استمرارهم في هذا الطريق لا يفسَّر إلا كخضوع كامل للهيمنة الأمريكية وتخلٍّ عن أي اعتبار للكرامة الوطنية.

 

أوهام الحماية تتبخر

منذ بداية موجة التطبيع، روّجت الحكومات المطبعة أن العلاقة مع إسرائيل ستحقق الأمن، وتحمي من "التهديدات المشتركة". لكن قصف الدوحة جاء ليبدد هذه الأوهام. فلا أمريكا أوقفت العدوان، ولا إسرائيل احترمت "الشركاء الجدد". بل العكس تماماً: إسرائيل تثبت أنها ترى نفسها فوق الجميع، وأن الاتفاقيات ليست سوى ورق سياسي لا يمنعها من ممارسة عدوانها متى شاءت.

بذلك، يصبح التطبيع أداة لإضعاف الموقف العربي، لا لتقويته. المطبعون اليوم رهائن لوهم اسمه "التحالف الاستراتيجي"، بينما في الحقيقة لم يجنوا سوى فقدان ثقة شعوبهم، وتعريض أمنهم لمزيد من المخاطر.

 

الشعوب لن تغفر خيانة التطبيع

الشارع العربي لم يعد يحتاج إلى دليل جديد لرفض التطبيع، لكن قصف الدوحة جاء ليؤكد له أن الخيانة ليست فقط في التخلي عن فلسطين، بل في التخلي عن السيادة الوطنية نفسها. كيف لشعوب ترى عواصمها مستباحة أن تقبل بحكومات تفتح الأبواب أمام القتلة؟ وكيف لشعب عربي أن يصدق أن "التعاون مع إسرائيل" جسر للتنمية، بينما النتيجة الوحيدة حتى الآن هي الدم والدمار؟

إن غضب الشعوب يتراكم، ومع كل عملية عدوانية جديدة تتسع الهوة بين الحكام والمواطنين. المطبعون قد يراهنون على القمع لتمرير سياساتهم، لكن التجارب تؤكد أن الذاكرة الشعبية طويلة، وأن لحظة الحساب، عاجلاً أو آجلاً، قادمة.

قصف الدوحة كشف الحقيقة العارية: التطبيع لم يكن طريقاً للسلام، بل غطاءً للاستباحة. إسرائيل لا ترى في العرب شركاء، بل ساحات للاغتيال ومجالاً مفتوحاً للقوة. وأمريكا لا تقدم الحماية، بل تمنح الغطاء للعدوان. وبينما يواصل المطبعون التصفيق وادعاء الواقعية السياسية، تكشف الوقائع أنهم يضعون سيادة دولهم وكرامة شعوبهم في مهب الريح.

إن مستقبل التطبيع بعد الدوحة لن يكون إلا مساراً نحو مزيد من العزلة والمهانة، لأن الشعوب لن تنسى، ولأن إسرائيل ستواصل عدوانها، ولأن من يبيع نفسه للعدو لا يشتريه أحد.