لم يعد الصراع بين إسرائيل وحركة حماس مقتصرًا على ميادين غزة أو جبهات جنوب لبنان. فخلال الأشهر الأخيرة، تحولت العواصم الإقليمية إلى مسرح مفتوح للاغتيالات الإسرائيلية، بحجة ما تسميه تل أبيب "تصفية الحساب" على خلفية هجوم السابع من أكتوبر2023.

فبعد اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، في العاصمة الإيرانية طهران، جاء الدور على الدوحة، حيث نفذت إسرائيل هجومًا جويًا استهدف قيادات بارزة للحركة، وأسفر عن مقتل ستة أشخاص بينهم نجل خليل الحية ومساعده وحراس شخصيون وضابط أمني قطري. هذا التصعيد النوعي يكشف أن أي بلد يحتضن قيادات حماس بات معرضًا للاختراق والضرب، في ظل تنسيق معلن أو ضمني مع الولايات المتحدة، وتواطؤ عربي مثير للقلق.

 

الأهداف الإسرائيلية من الضربات

إسرائيل أعلنت صراحة أن استهداف قيادات حماس في قطر جاء استكمالًا لنهجها في "تصفية المسؤولين" عن هجوم 7 أكتوبر. لكن خلف هذه الرواية العسكرية تكمن جملة من الأهداف السياسية والأمنية.

أولًا، تحاول تل أبيب كسر صورة حماس كحركة قادرة على الحفاظ على قيادة آمنة في الخارج. فالضربة في الدوحة لم تستهدف فقط شخصيات تنفيذية بل رمزية الحركة ومصداقيتها أمام حاضنتها الشعبية.

ثانيًا، تبعث إسرائيل رسالة ردع إلى الدول التي تستضيف قيادات الحركة، بأن أي حماية سياسية أو أمنية لن تكون كافية إذا قررت تل أبيب الضرب.

ثالثًا، تهدف إسرائيل إلى إرباك مسار التفاوض غير المباشر، إذ أن الهجوم استهدف وفدًا كان جزءًا من الجهود المتعلقة بالوساطة، وهو ما قد يعقّد أي محاولات للتهدئة أو صفقات تبادل الأسرى.

باختصار، الهدف الإسرائيلي مزدوج: إضعاف القيادة ميدانيًا، وتجريدها من المظلة الدبلوماسية في الخارج.

 

التنسيق الأمريكي: صمت يشي بالكثير

اللافت أن التسريبات الإعلامية أكدت أن الولايات المتحدة "أحيطت علمًا" بالهجوم على الدوحة قبل تنفيذه، وهو ما لم تنفه واشنطن بشكل قاطع، مكتفية بالقول إنها "تتابع التطورات". وجود قاعدة العديد العسكرية الأمريكية في قطر يجعل من الصعب تصور أن ضربة بهذا الحجم مرت من دون علم أو موافقة ضمنية.

هذا يعزز الانطباع بأن إسرائيل لا تتحرك وحدها، بل تستفيد من شبكة دعم استخبارية وعسكرية يشارك فيها الحليف الأمريكي، ولو عبر التغاضي عن التوقيت والهدف. والنتيجة أن السيادة القطرية تم انتهاكها على مرأى ومسمع واشنطن، التي اكتفت بمواقف باهتة تحذر من "تقويض جهود التهدئة"، من دون إدانة أو رفض حقيقي.

هذا الموقف الأمريكي يعكس معضلة أوسع: حين يتعلق الأمر بأمن إسرائيل، تصبح سيادة الدول الأخرى ورقة هامشية. وهو ما يجعل بلدان المنطقة تدفع ثمنًا مضاعفًا، سواء من خلال فقدان ثقتها في الحماية الدولية أو عبر تعرّضها لحرج سياسي داخلي أمام شعوبها.

 

من طهران إلى الدوحة: خط اغتيالات ممتد

اغتيال إسماعيل هنية في طهران كان صدمة كبرى، ليس فقط لأنه استهدف رأس القيادة السياسية لحماس، بل لأنه وقع في قلب العاصمة الإيرانية، التي طالما صوّرت نفسها حصنًا حصينًا في مواجهة إسرائيل. الضربة في الدوحة جاءت لتؤكد أن تل أبيب قررت نقل المعركة إلى أي ساحة يتواجد فيها خصومها، حتى لو كان ذلك يعني خرقًا فاضحًا لسيادة دول ذات علاقات مع الغرب.

الرسالة واضحة: لا حصانة لأحد، ولا مدينة آمنة. من إيران إلى قطر، مرورًا بلبنان وسوريا واليمن، باتت ساحات نفوذ حماس وحلفائها عرضة للانكشاف أمام الذراع الإسرائيلية الطويلة. هذا النهج يضع كل الدول التي تستضيف قيادات حماس أو تفتح لها قنوات تواصل أمام تهديد مستمر، ما قد يدفع بعضها إلى إعادة النظر في طبيعة وجود الحركة على أراضيها.

 

تحدٍ سافر للسيادة وبلطجة بلا رادع

من منظور القانون الدولي، ما حدث في الدوحة ليس أقل من عدوان مسلح على دولة ذات سيادة. ومع ذلك، فإن ردود الفعل الرسمية اكتفت بالإدانة اللفظية، بينما غابت أي خطوات عملية لمحاسبة إسرائيل أو ردعها.

ما يمكن تسميته "البلطجة الإسرائيلية" يجد تبريرًا من حلفاء أقوياء، وصمتًا من النظام العربي الرسمي الذي اكتفى بالبيانات الدبلوماسية. هنا تتجلى المعضلة الكبرى: في حين تُنتهك العواصم وتُستباح الأجواء، لا يظهر من الأنظمة العربية سوى الانحناء أمام الواقع، بل أحيانًا محاولة التبرير. هذا العجز يعكس تراجع النظام العربي عن لعب أي دور سيادي حقيقي، ويترك الساحة مفتوحة لإسرائيل لتفرض معادلاتها بلا مقاومة تُذكر.

 

مستقبل غامض للوساطات الإقليمية

إذا كانت الدوحة، التي استضافت محادثات السلام بين الولايات المتحدة وطالبان، لم تعد بمنأى عن الهجمات، فكيف يمكن تصور أن تظل مركزًا مقبولًا للوساطات في النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي؟

الهجوم على قيادات حماس في قطر يقوّض الثقة في أي عملية تفاوضية مستقبلية، ويجعل وفود حماس نفسها أكثر ترددًا في المشاركة في لقاءات خارجية خوفًا من الاستهداف. كذلك يبعث برسالة إلى وسطاء آخرين، مثل مصر وتركيا، بأن استضافة قيادات حماس قد تجلب ضغوطًا أو تهديدات أمنية. النتيجة أن مسار التهدئة يتعرض لضربة مزدوجة: إضعاف القيادة المستهدفة، وتقويض البيئة الدبلوماسية الداعمة.

وأخيرا فالهجوم الإسرائيلي في الدوحة، وقبله اغتيال إسماعيل هنية في طهران، يمثلان فصلًا جديدًا من سياسة الاغتيالات العابرة للحدود. إسرائيل تسعى لتكريس مبدأ أن لا حصانة لأعدائها في أي مكان، بينما الولايات المتحدة تؤدي دور الشريك الصامت أو الداعم ضمنيًا. في المقابل، يكتفي النظام العربي الرسمي بالإدانات الباردة، في صورة مهينة تعكس حجم العجز وانعدام الإرادة السياسية.

في ظل هذه الوقائع، يترسخ شعور بأن إسرائيل لا تواجه أي رادع حقيقي، بل تجد الغطاء الدولي والدبلوماسي لمواصلة بلطجتها.

والنتيجة أن كل بلد يضم قيادات حماس بات في مرمى النيران، وأن القضية الفلسطينية تتحول إلى ساحة مفتوحة تُدار فيها الحسابات الإسرائيلية بلا اعتبار لسيادة الدول أو أمن شعوبها. وما لم يحدث تحول جذري في الموقف العربي والدولي، فإن مسلسل الاغتيالات مرشح للتوسع، ومعه يتآكل ما تبقى من هيبة السيادة الإقليمية.