في مشهد يختصر عمق الأزمة التي تعيشها إسرائيل تحت حكم بنيامين نتنياهو وتحالفه مع الأحزاب الدينية المتطرفة، أعلنت مصادر إعلامية أن نحو ستة ملايين لتر من الحليب سيتم إتلافها بالكامل، وذلك بقرار صادر عن الحاخامات لأن عملية الحلب جرت يوم السبت على أيدي غير اليهود. القرار الذي يبدو عبثيًا للوهلة الأولى، يكشف عن تزايد هيمنة المرجعيات الدينية على الحياة العامة، وعن انزلاق إسرائيل أكثر فأكثر إلى نموذج ثيوقراطي متشدد يحكمه نصوص التوراة أكثر مما تحكمه اعتبارات المنطق أو الاقتصاد.
https://x.com/NTarnopolsky/status/1964308284988436788
 

جنون ديني أم سياسة ممنهجة؟
إتلاف ملايين اللترات من الحليب لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد فتوى دينية تخص "طهارة المنتجات"، بل هو انعكاس مباشر لتحالف سياسي يربط مصير الدولة بمزاج الحاخامات. منذ عودة نتنياهو إلى السلطة، اعتمد على دعم أحزاب دينية متطرفة مثل "شاس" و"يهدوت هتوراه"، وهي قوى تجعل من الالتزام الصارم بالتفسير الديني للتوراة شرطًا لاستمرار مشاركتها في الحكم.
وبالتالي، فإن قرارات كهذه لا تنفصل عن المشهد السياسي: نتنياهو يمنح الحاخامات سلطة تقرير مصير الغذاء والاقتصاد، في مقابل ضمان بقائه في السلطة وسط أزمات سياسية وقضائية متصاعدة تهدد مستقبله.
 

اقتصاد في قبضة الفتوى
من الناحية الاقتصادية، يطرح قرار إتلاف 6 ملايين لتر من الحليب علامات استفهام ضخمة. فإسرائيل تعاني أصلًا من أزمات معيشية وارتفاع أسعار المواد الغذائية، فضلًا عن ضغوط الحرب وتكاليف الأمن. في ظل هذه الظروف، لا يمكن تفسير إهدار موارد غذائية بهذه الضخامة إلا باعتباره خضوعًا كاملًا لمنطق ديني متشدد لا يعترف بميزان العرض والطلب.
هذا الوضع يؤكد أن الاقتصاد الإسرائيلي لم يعد محكومًا بقوانين السوق وحدها، بل أصبح أداة في يد جماعات دينية ترى في المنتجات الزراعية أو الصناعية مسألة "طهارة وشريعة" قبل أن تكون مسألة أمن غذائي أو استقرار اقتصادي.
 

تحولات إسرائيل نحو الدولة الدينية
ما يجعل حادثة "الحليب" خطيرة ليس فقط حجم الهدر، بل رمزيتها. فهي تكشف عن مدى التحول في هوية الدولة العبرية: من دولة تدّعي الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط، إلى كيان يقترب أكثر من أن يكون "جمهورية دينية" تحكمها الفتاوى.
القرار يتناغم مع سياسات أخرى فرضها التيار الديني، مثل فرض قيود على حركة المواصلات أيام السبت، أو الضغط لإصدار قوانين تمييزية ضد غير اليهود. كلها حلقات في سلسلة تجعل من إسرائيل، وفق تعبير معلقين إسرائيليين، "دولة مختطفة من قبل الحاخامات".
 

نتنياهو والأزمة الأخلاقية
الكاتب والصحفي نيتا ترنوبولسكي وصف الأمر بأنه دليل على أن نتنياهو "حوّل إسرائيل إلى حالة جماعية من الجنون الثيوقراطي".
هذه العبارة تختصر أزمة القيادة في إسرائيل: رئيس وزراء يواجه قضايا فساد ومحاكمات، لا يجد أمامه سوى الارتماء في أحضان الحاخامات لضمان الغطاء السياسي. لكن الثمن هو دفع المجتمع الإسرائيلي نحو مزيد من الانقسام، وإفقاده الثقة في المؤسسات المدنية والديمقراطية.
الإهدار العبثي للحليب يصبح هنا تجسيدًا لأزمة أخلاقية أوسع: دولة تفضّل إرضاء الحاخامات على إطعام مواطنيها أو تقديم منتجاتها لأسواق تعاني شُحّ الغذاء عالميًا.
 

ردود الفعل: غضب وسخرية
الخبر أثار موجة واسعة من الغضب والسخرية على منصات التواصل، حيث وصفه نشطاء بأنه "جنون ديني يليق بالعصور الوسطى". آخرون شبّهوا المشهد بما يحدث في دول دينية منغلقة على نفسها، معتبرين أن إسرائيل فقدت آخر أقنعة الحداثة والبراغماتية التي طالما حاولت التفاخر بها أمام الغرب.

الصحفي ناصر النعيمي كتب سيتم إتلاف ستة ملايين لتر من الحليب بأمر من الحاخامات لأنه استُخرج يوم السبت من قِبل غير اليهود. حوّل بنيامين نتنياهو دولة إسرائيل إلى جنون جماعي متطرف ومختل عقليًا.".
https://x.com/AlnuaimiNasser1/status/1964599614491038123

وأخيرا فحادثة إتلاف 6 ملايين لتر من الحليب ليست واقعة منعزلة، بل مؤشر واضح على عمق التغيرات التي تضرب إسرائيل من الداخل. دولة قامت على مشروع استيطاني قومي علماني، باتت اليوم أسيرة لحكم الحاخامات واليمين الديني المتطرف. وفي ظل استمرار نتنياهو في المساومة على مستقبل المجتمع الإسرائيلي من أجل بقائه السياسي، يبدو أن "الحليب المسكوب" لم يعد مجرد مثل شعبي، بل أصبح حقيقة تجسد مصير دولة تتآكل من الداخل بفعل التطرف والدولة الدينية.