في ذكرى المولد النبوي الشريف، خرج قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي ليخاطب المصريين قائلًا: "مهما تعددت وجوه الشر، وتنوعت أساليبه، فستبقى مصر بإذن ربها أرض الأمان والسلام والعزة". كلمات منمقة، بدت في ظاهرها وكأنها رسالة طمأنة ودعوة للتفاؤل، لكنها في نظر كثيرين ليست سوى خطاب من كوكب آخر، لا يمت بصلة للواقع الذي يعيشه المصريون.

 

أين وجوه الشر؟

تحدث السيسي عن "وجوه الشر" التي تتربص بمصر، لكن أي مراقب محايد سيتساءل: من هو الشر الحقيقي؟ أليس من يرمي بآلاف الشباب في السجون بلا محاكمات عادلة؟ أليس من حوّل الزنازين إلى قبور مغلقة على مستقبل أجيال كاملة؟ الشباب الذين كان يفترض أن يكونوا طاقة الأمة لبناء مستقبلها، صاروا أسرى حبس احتياطي يتجدد لسنوات، بلا ذنب سوى التعبير عن الرأي أو الانتماء لمعارضة سلمية. فإذا كان السيسي يتحدث عن "وجوه الشر"، فالكثيرون يرونه هو نفسه التجسيد الأوضح لهذا الشر.

 

أين العزة؟

يقول السيسي إن مصر أرض العزة، لكن أي عزة تلك ومصر لا تستطيع أن تدخل شاحنة مساعدات إلى غزة إلا بإذن من إسرائيل؟ أي كرامة وطنية حين يصبح قرار معبر رفح في يد الاحتلال أكثر مما هو في يد الدولة المصرية؟ هذه ليست عزّة، بل تبعية كاملة، تكشف عن فقدان القرار السيادي وتحويل مصر من دولة قائدة في المنطقة إلى تابع يترقب التعليمات.

 

أين الأمان؟

يتحدث السيسي عن "أرض الأمان"، لكن ملايين المصريين يعيشون تحت خط الفقر، يبحثون عن رغيف خبز أو جرعة دواء. أي أمان يشعر به المواطن وهو عاجز عن دفع فواتير الكهرباء والماء والضرائب التي تزداد بلا توقف؟ وأي أمان لأب يرى أبناءه مهددين بالاعتقال لمجرد منشور على وسائل التواصل الاجتماعي؟ الأمن الحقيقي ليس مجرد شعارات تُقال في قاعة احتفالية، بل شعور المواطن أنه محمي في حياته وكرامته، وهو ما غاب تمامًا في عهد السيسي.

 

أين النيل؟

يتحدث السيسي عن العزة والسلام، بينما خسر المصريون معركة النيل في عهده. سد النهضة الإثيوبي الذي أصبح أمرًا واقعًا يهدد أمن مصر المائي، لم يجد أمامه سوى تصريحات هزيلة ولقاءات عبثية. لم يستطع السيسي أن يحمي حق مصر التاريخي في النيل، بل وقّع اتفاق المبادئ الذي منح إثيوبيا الشرعية لمشروعها. فأي عزة تبقى لشعب يواجه العطش، بعدما فوّت حاكمه الفرصة تلو الأخرى للحفاظ على شريان حياته؟

 

أين الكرامة؟

ويدّعي السيسي أن مصر هي "أرض الكرامة"، لكن المصري البسيط لا يجد كرامته في أي موضع. المواطن الذي يقف في طوابير لساعات من أجل الخبز المدعوم، أو العامل الذي لا تكفيه أجرته لسداد إيجار مسكنه، أو المريض الذي يطرده المستشفى حتى يدفع مقدم العلاج، كل هؤلاء لا يعرفون الكرامة التي يتحدث عنها السيسي. لقد تحولت الكرامة في عهده إلى سلعة نادرة، فيما تُداس إنسانية المواطن يوميًا على أبواب المؤسسات الحكومية وأقسام الشرطة والسجون.

 

كلمات من كوكب آخر

خطاب السيسي في ذكرى المولد النبوي لم يكن سوى ترديد لعبارات إنشائية، بعيدة كل البعد عن الواقع. فهو يتحدث عن قيم العزة والسلام في وقت يعيش فيه الشعب الفقر والمهانة، ويتحدث عن الأمان في وقت يمتلئ فيه البلد بالسجون والمعتقلات. إنه خطاب يوحي وكأن السيسي يتحدث من كوكب آخر، لا يرى فيه معاناة شعبه ولا يسمع صرخاتهم.

 

خلاصة التصريحات

إن ما قاله السيسي في كلمته لا يغيّر من الحقيقة شيئًا: مصر اليوم ليست أرض العزة ولا الأمان ولا الكرامة. بل هي أرض المعتقلات، أرض الفقر، أرض التبعية لإسرائيل والارتهان للقروض. وإذا كانت وجوه الشر قد تعددت فعلًا، فإن أكبر تلك الوجوه هو النظام الذي صادر أحلام المصريين وحوّل وطنهم إلى سجن كبير.