أعادت وفاة الإعلامية عبير الأباصيري داخل مستشفى الهرم التخصصي الخاص الجدل مجدداً حول واقع المنظومة الصحية في مصر، بعد أن تداولت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي تفاصيل صادمة عن تأخر تقديم الخدمة الطبية لها بحجة انتظار سداد مبالغ مالية، الأمر الذي أدى إلى تدهور حالتها الصحية بشكل خطير وانتهى برحيلها المفجع.
ورغم محاولات وزارة الصحة التخفيف من وقع الحادثة، إلا أن شهادات وشواهد الواقع تكذب الرواية الرسمية وتؤكد أن ما جرى لم يكن سوى انعكاس صارخ للخلل المزمن الذي يضرب قطاع الصحة في مصر.

وزارة الصحة أصدرت بياناً سريعاً قالت فيه إنها "تابعت باهتمام بالغ ما تم تداوله بشأن مزاعم وجود تقصير في التعامل مع الحالة الصحية للإعلامية عبير الأباصيري"، مضيفة أن جميع الخدمات الطبية المقدمة لها كانت مجانية بالكامل كون الحالة طارئة، وأنه لم يتم تحصيل أي رسوم نظير الخدمات العلاجية.
لكن هذه التصريحات الرسمية سرعان ما تعرضت للتشكيك من الرأي العام، حيث أكد كثيرون أن المستشفى تعامل مع الحالة على أساس استثماري بحت، وأن تقديم العلاج لم يبدأ فعلياً إلا بعد الهالة الإعلامية التي صاحبت الواقعة وتدخل وزارة الصحة بشكل مباشر.

الصدمة الأكبر جاءت من كون المستشفى المذكور مستشفى استثماري خاص، لا يحتوي على قسم للعلاج المجاني، ما يتعارض تماماً مع مزاعم الوزارة بأن الخدمات قُدمت منذ البداية دون مقابل.
بل إن شهادات مقربين من الإعلامية الراحلة تحدثت عن أن حالتها الصحية تدهورت بشكل ملحوظ بسبب تأخر التعامل الطبي معها، ما دفعهم إلى الاستنجاد بوسائل الإعلام لفضح ما يجري خلف الأبواب المغلقة.
هذا التناقض الفاضح يفضح محاولة السلطات احتواء الأزمة عبر التبرير بدلاً من مواجهة الحقائق.

مأساة الأباصيري ليست حادثة معزولة، بل هي حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الانتهاكات والإهمال الطبي التي يدفع ثمنها المواطن المصري يومياً.
فالمستشفيات الحكومية تعاني من ضعف التمويل ونقص الكوادر الطبية وهجرة الأطباء، بينما المستشفيات الخاصة تحولت إلى مشاريع استثمارية تستنزف جيوب المرضى دون أي التزام بالبعد الإنساني أو حتى بالقوانين التي تفرض علاج الحالات الطارئة مجاناً.
في هذه البيئة المختلة، يصبح المريض العادي ضحية لمعادلة قاسية: إما أن يموت بسبب الإهمال في المستشفيات العامة، أو يُستنزف مالياً وربما يموت أيضاً في المستشفيات الخاصة.

تجربة الأباصيري أعادت إلى الواجهة سؤالاً ملحاً: أين الحق في العلاج الذي يكفله الدستور المصري؟
وكيف يمكن لمواطنة أن تُترك لمصيرها بين جدران مستشفى يرفض تقديم الخدمة حتى تُدفع الرسوم، بينما وزارة الصحة تكتفي ببيانات إنشائية تتحدث عن "المجانية الكاملة"؟
الواقع يقول إن النظام الصحي المصري لم يعد يستجيب لنداءات المرضى إلا تحت ضغط الإعلام أو الرأي العام، وهو ما حدث في هذه الواقعة بالضبط.

وفاة الأباصيري تكشف أيضاً أزمة أعمق تتعلق بانعدام الثقة بين المواطن والسلطات.
فكلما وقعت كارثة مشابهة، تسارع الحكومة إلى إصدار بيانات تؤكد أن "كل شيء كان مجانياً" و"لم يكن هناك أي تقصير"، بينما الوقائع والشهادات تكشف العكس تماماً.
هذه الفجوة بين الرواية الرسمية والواقع الملموس هي التي تكرس شعور المصريين بأن حياتهم لا تساوي شيئاً في نظر الدولة، وأن حقوقهم الصحية لا تُسترد إلا بالصراخ وفضح الإهمال عبر الإعلام.

اللافت أن الحادثة تأتي في وقت تتحدث فيه الحكومة عن "خطط إصلاحية كبرى في القطاع الصحي"، بينما تكشف المأساة أن هذه الخطط لم تتجاوز حدود التصريحات.
فما جدوى الاستراتيجيات المعلنة إذا كانت حياة إعلامية معروفة لم تجد من ينقذها في مستشفى يقع في قلب العاصمة، فكيف يكون الحال مع مواطن فقير في قرية نائية؟

خلاصة الأمر أن ما حدث مع عبير الأباصيري لم يكن مجرد حادثة فردية، بل هو جريمة إهمال ممنهج تتحمل مسؤوليتها المنظومة الصحية بكاملها، من إدارة المستشفى إلى وزارة الصحة التي لم تتحرك إلا بعد أن تحولت القصة إلى قضية رأي عام.
هذا الواقع المزري يعكس انهيار حق أساسي للمصريين: الحق في العلاج، ويثبت أن "المجانية" التي تتحدث عنها الحكومة ليست سوى وهمٍ يتبخر على أبواب المستشفيات الاستثمارية.

وفي النهاية، فإن دم عبير الأباصيري يجب ألا يضيع سدى. فإما أن تكون هذه المأساة جرس إنذار لإصلاح جذري يعيد الاعتبار لحق المصريين في العلاج، أو تبقى مجرد رقم جديد في قائمة طويلة من الضحايا الذين يسقطون كل يوم بصمت تحت أنقاض نظام صحي مهترئ، لا يرى في المواطن سوى وسيلة لتحصيل الأموال أو لتجميل صورة سياسية مشوهة.