في خطوة مفاجئة تزيد من تعقيد أزمة سد النهضة وتفاقم المخاوف بشأن الأمن المائي لمصر، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عزمه بناء سدود جديدة على مجرى النيل، وذلك بالتزامن مع الإعلان عن افتتاح سد النهضة رسميًا في السادس من سبتمبر الجاري.

هذا التطور الخطير يأتي في وقتٍ تعاني فيه القاهرة من أزمة غير مسبوقة في مصادر المياه، وصلت إلى حد إجبار المصريين على استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في الزراعة، وسط حالة من الصمت الرسمي المريب، الأمر الذي أثار موجة غضب وانتقادات واسعة للنظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي.

 

إثيوبيا تواصل سياسة فرض الأمر الواقع

آبي أحمد لم يكتفِ بتشييد سد النهضة الذي مثّل ضربة موجعة لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل، بل صرّح بشكل علني أن بلاده ماضية في خطة طموحة لبناء مزيد من السدود لتوليد الكهرباء وزيادة الإنتاج الزراعي، مؤكداً أن "إثيوبيا لن تنتظر إذن أحد لاستغلال مواردها الطبيعية". هذا الإعلان، الذي يأتي قبل ساعات من تدشين سد النهضة، اعتبره مراقبون تحديًا سافرًا للقاهرة التي وقّعت في عام 2015 اتفاق المبادئ، والذي اعتبره خبراء "أكبر تنازل في تاريخ مصر عن حقوقها المائية".

 

المصريون بين مياه الصرف الصحي وإهدار المليارات

بعد توقيع عبد الفتاح السيسي على اتفاق المبادئ عام 2015، الذي مهّد لبناء وتشغيل سد النهضة، فقدت مصر جزءًا مهمًا من حصتها التاريخية في مياه النيل.

وبدلًا من مواجهة الأزمة عند جذورها، لجأ النظام إلى ما يسميه "الحلول البديلة"، وهي في حقيقتها حلول ترقيعية، تعتمد على إعادة تدوير مياه الصرف الصحي وتحليتها.

فالحكومة أنفقت مليارات الجنيهات على محطات المعالجة الثلاثية مثل محطة المحسمة وبحر البقر التي تجاوزت تكلفتها وحدها 20 مليار جنيه، إضافة إلى مشروعات التحلية التي تستهدف 21 محطة جديدة بحلول عام 2030، بتكلفة إجمالية تقترب من 134 مليار جنيه.

هذه الأرقام الضخمة تأتي في وقت تعاني فيه الموازنة من عجز مزمن، ما يعني أن هذه المشروعات تُموّل غالبًا عبر قروض جديدة تزيد أعباء خدمة الدين التي تجاوزت بالفعل نصف الإنفاق العام.

ورغم هذا النزيف المالي، يبقى السؤال الأخطر: ما الضمانات الصحية؟ تقارير طبية عديدة تحذر من أن مياه الصرف حتى بعد المعالجة قد تحتوي على بقايا ملوثات كيميائية ومعادن ثقيلة تهدد صحة المواطنين، خاصة مع استخدام هذه المياه في الزراعة التي تمد المصريين بالغذاء. وهكذا يجد المصريون أنفسهم يدفعون الثمن مرتين: مرة حين أهدر النظام حقوقهم في مياه النيل، ومرة أخرى حين أجبرهم على شرب مياه معالجة من الصرف الصحي، وكل ذلك بينما تُهدر المليارات على مشروعات لم تكن لتوجد أصلًا لو لم يفرط السيسي في شريان الحياة الأساسي للبلاد.

 

صمت السيسي... وتصدير الأوهام للمصريين

بينما تتوالى التصريحات الإثيوبية الاستفزازية، يلتزم السيسي الصمت، مكتفيًا بخطاباته السابقة التي وعد فيها بعدم المساس بحصة مصر من مياه النيل. اليوم، وبعد سنوات من هذه الوعود، يجد المواطن المصري نفسه أمام واقع مرير: نقص حاد في المياه العذبة، والاعتماد المتزايد على محطات تحلية البحر ومياه الصرف الصحي المعالجة، وهو ما أكده وزير الري في تصريحات سابقة حين قال إن "إعادة استخدام مياه الصرف أصبحت ضرورة لا خيارًا".

المفارقة الصادمة أن النظام يروّج لهذه الخطوة باعتبارها "إنجازًا"، في حين يراها خبراء فشلاً ذريعًا في إدارة الملف المائي الذي يعد مسألة حياة أو موت.

 

قلق الخبراء وتحذيرات من مستقبل مظلم

الخبراء المائيون لم يخفوا صدمتهم من التطورات الأخيرة، مؤكدين أن استمرار سياسة "الصمت" المصرية مقابل التصعيد الإثيوبي يعني أن البلاد تتجه إلى أزمة وجودية. الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية، حذّر مرارًا من أن بناء سدود جديدة يعني حرمان مصر من أي زيادة مستقبلية في حصتها المائية، بل وربما تقليصها فعليًا. وأشار إلى أن "التنازلات التي قُدمت في اتفاق المبادئ أعطت لإثيوبيا شرعية كانت تبحث عنها، والنتيجة أننا الآن بلا أوراق ضغط".

تحذيرات مشابهة صدرت عن خبراء آخرين، دعوا الحكومة إلى تحريك المجتمع الدولي أو اللجوء للتحكيم، لكنهم يقرّون أن الوقت يمرّ لصالح أديس أبابا التي حوّلت المفاوضات إلى مجرد غطاء لاستكمال خططها.

مع اقتراب موعد افتتاح سد النهضة رسميًا، وتزايد حديث أديس أبابا عن بناء سدود جديدة، تبدو مصر أمام واقع شديد الخطورة.