في بلد يعاني فيه المواطن البسيط للحصول على حقه في العلاج، جاءت خصخصة مستشفى هرمل وتغيير أسمه لجوستاف روسي، لتفتح بابًا جديدًا من الأزمات أمام مرضى السرطان.
المستشفى الذي كان ملاذًا مجانيًا أو منخفض التكلفة لآلاف المرضى، تحول إلى عبء مالي خانق بعد دخوله تحت إدارة استثمارية تستهدف الربح، تاركًا المرضى في مواجهة فواتير باهظة وخدمات متراجعة.

السؤال الذي يطرح نفسه: هل تحولت صحة المصريين إلى سلعة؟.
 

خصخصة مستشفى هرمل
تم تخصيص مستشفى هرمل للأورام ضمن موجة الخصخصة التي تنتهجها الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة، بدعوى تحسين الخدمات الصحية وجذب الاستثمارات.
عملية البيع تمت لصالح إحدى الشركات الخاصة الكبرى في مجال الرعاية الصحية، لكن الحكومة لم تعلن بشكل رسمي عن قيمة الصفقة، وسط تسريبات تشير إلى أنها بيعت بأقل من قيمتها الحقيقية، ما أثار جدلاً واسعًا.

المستشفى كان يُعد من المراكز المهمة لعلاج مرضى السرطان بالمجان، حيث كان يخدم آلاف المرضى غير القادرين، خاصة في المحافظات المجاورة.
بعد الخصخصة، بدأت تظهر شكاوى من ارتفاع أسعار الخدمات وتقليص الدعم المجاني، الأمر الذي فاقم معاناة المرضى، خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.

النقاد يعتبرون أن هذه الخطوة تمثل استمرارًا لسياسة بيع أصول الدولة دون شفافية، وتحويل العلاج من خدمة عامة إلى مشروع ربحي، وهو ما يهدد حق المواطنين في الحصول على رعاية صحية ميسورة التكلفة.
 

من العلاج المجاني إلى فواتير باهظة
قبل الخصخصة، كان مستشفى هرمل أحد أهم مراكز علاج الأورام التابعة لوزارة الصحة، يقدم خدمات شبه مجانية لمرضى السرطان، معظمهم من محدودي الدخل.
لكن بعد نقل الإدارة إلى القطاع الخاص، قفزت أسعار الخدمات الطبية بشكل صادم، حيث وصلت تكلفة جلسة العلاج الكيماوي إلى أضعاف ما كانت عليه.
المرضى الذين اعتادوا الحصول على العلاج مجانًا أصبحوا اليوم أمام خيارين أحلاهما مر: إما دفع مبالغ طائلة، أو التوقف عن العلاج والمخاطرة بحياتهم.
 

صرخات المرضى وأسرهم
"كنا بنعالج ببلاش، دلوقتي بقى كل حاجة بفلوس"، بهذه الكلمات عبرت السيدة أم مصطفى عن معاناتها بعد خصخصة المستشفى، مضيفة: "أنا ست غلبانة، أجيب منين 10 آلاف جنيه كل شهر للعلاج؟"

أما الحاج محمود، مريض سرطان الدم، فيقول: "قالولنا العلاج بقى على حسابك، ولو مش عاجبك روح مستشفى تاني. بس فين؟

المستشفيات الحكومية زحمة والعلاج ناقص"، صرخة تختصر مأساة آلاف المرضى الذين وجدوا أنفسهم خارج مظلة الرعاية الصحية.
 

 

 

انهيار الخدمات وضغوط مالية
لم تتوقف الأزمة عند ارتفاع التكلفة فقط، بل امتدت لتشمل تراجع مستوى الخدمة داخل المستشفى.
شكاوى المرضى تتحدث عن نقص في الأدوية، وقلة الكوادر الطبية بعد انتقال عدد كبير من الأطباء للعمل في مستشفيات خاصة أخرى.

بعض المرضى أكدوا أنهم يُجبرون على شراء الأدوية من الخارج بأسعار مضاعفة، في ظل غياب الرقابة على إدارة المستشفى.
ويشير خبراء إلى أن هذه السياسات تعكس توجهًا عامًّا نحو خصخصة القطاع الصحي، دون وجود ضمانات لحماية الفقراء.
 

آراء الخبراء ونقابة الأطباء
يقول الدكتور علاء عبدالغفار، عضو نقابة الأطباء: "خصخصة المستشفيات الحكومية الحساسة مثل مراكز علاج الأورام كارثة، لأنها تحوّل العلاج من حق للمواطن إلى سلعة يتحكم فيها رأس المال".
وأضاف أن الحكومة يجب أن تضع حدًا لهذه الفوضى وإلا فإن معدلات الوفيات سترتفع بسبب عجز المرضى عن استكمال العلاج.
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي الدكتور هشام بدوي أن خصخصة الصحة دون نظام تأميني شامل هو "قرار غير إنساني"، داعيًا إلى وقف بيع المستشفيات الاستراتيجية وإعادة النظر في عقود الإدارة الحالية.
 

وأخيرا فأزمة مستشفى هرمل تكشف الوجه القاسي لسياسات الخصخصة العشوائية، حيث تُباع حقوق الفقراء في الصحة باسم التطوير، بينما تتباهى الحكومة بجذب استثمارات للقطاع الطبي، يبقى المريض الفقير ضحية، يدفع ثمن السياسات التي حولت حياته إلى تجارة. إن إنقاذ أرواح مرضى السرطان لا يجب أن يكون معركة مالية، بل أولوية وطنية، وإلا فإن شعار "الصحة حق للجميع" سيبقى مجرد حبر على ورق.