شهدت السوق المصرية ما وصفه كثيرون بأنه نموذج فجّ لـ"النهب المقنّن" لمقدرات الدولة، بعد استحواذ جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة – التابع للمؤسسة العسكرية – على قرابة 90% من أسهم الشركة العربية القابضة لاستصلاح الأراضي، بسعر لا يتجاوز 5% من قيمتها الحقيقية، في واحدة من أكثر الصفقات إثارة للجدل في السنوات الأخيرة.
الصفقة، التي تمّت عبر البورصة المصرية تحت شعار "إعادة هيكلة"، لم تمر بهدوء؛ إذ فجّرت عاصفة من الانتقادات بشأن غياب الشفافية، وإهدار المال العام، واستغلال السلطة في سنّ قوانين تخدم مصالح ضيقة على حساب ملايين المصريين.
أرقام صادمة: كيف جرت الصفقة؟
وفق البيانات الرسمية، استحوذ الجهاز العسكري على 4.66 مليون سهم بسعر 5 جنيهات فقط للسهم، ليبلغ إجمالي قيمة الصفقة نحو 23.3 مليون جنيه.
لكن الواقع مختلف تمامًا.
تشير تقارير مالية مستقلة إلى أن القيمة العادلة للسهم خلال الأشهر الماضية تراوحت بين 95 و107 جنيهات، أي أن القيمة السوقية الحقيقية للصفقة كانت تقترب من 490 مليون جنيه، ما يعني أن السعر المدفوع لا يتجاوز عُشر القيمة الحقيقية.
وما يزيد الأمر غرابة أن الشركة المستحوذ عليها شركة رابحة؛ فقد سجّلت أرباحًا تجاوزت 6.2 مليون جنيه في الربع الأول من عام 2025، فيما بلغت قيمة أصولها نحو 287 مليون جنيه بنهاية عام 2023.
كل ذلك يجعل من الصفقة ليس مجرد "خطأ مالي"، بل تفريطًا واضحًا في شركة ناجحة مقابل "فتات"، بحسب تعبير مراقبين.
ثغرات قانونية أم تقنين للفساد؟
الصفقة أُنجزت بالقيمة الدفترية للسهم، لا بالقيمة السوقية، وهو ما مكّن الجهة المشترية – الجيش – من تفادي دفع الضرائب والرسوم والعمولات المعتادة في مثل هذه العمليات.
خبراء الاقتصاد وصفوا ما جرى بأنه "نهب قانوني"، حيث تُستغل ثغرات تشريعية صيغت بعناية لتسهيل نقل الأصول العامة إلى جهات عسكرية أو سيادية، بعيدًا عن المنافسة أو الطرح العلني.
صندوق النقد على الورق.. والواقع عكس ذلك
الصفقة تفضح كذلك التناقض الصارخ بين تعهّدات حكومة السيسي أمام صندوق النقد الدولي، والممارسات الفعلية على الأرض.
فبينما ألزم الصندوق الحكومة المصرية بتقليص نفوذ الجيش الاقتصادي وفتح المجال أمام القطاع الخاص – كشرط للحصول على قرض بقيمة 8 مليارات دولار – تكشف الوقائع أن المؤسسة العسكرية لا تزال تُوسّع قبضتها على الاقتصاد، تحت غطاء "الإصلاح الهيكلي".
الصندوق نفسه أشار مؤخرًا إلى بطء تنفيذ برنامج الطروحات، مؤكدًا أن ما تحقق منذ أكتوبر 2023 لا يتجاوز "صفقتين صغيرتين"، في مؤشر واضح على فجوة كبيرة بين الخطاب المعلن والتنفيذ الواقعي.
ردود فعل سياسية وقانونية.. رغم التهديدات
الصفقة لم تمر دون ردود.
- المحامي الحقوقي خالد علي أعلن نيته التقدم بدعوى قضائية لإبطال البيع، معتبرًا ما جرى إهدارًا للمال العام وتعديًا على حقوق المساهمين.
- أما النائب والمخرج السابق خالد يوسف فقد وجّه بلاغًا رسميًا إلى رئاسة الجمهورية والنائب العام، محذرًا من أن الصفقة تمثل "كارثة كبرى".
يوسف كشف أنه تلقى اتصالًا من رقم خاص يطلب منه حذف منشوره عن الصفقة بدعوى أنها "تثير البلبلة"، لكنه رفض، مؤكدًا أن الشفافية تقتضي تحقيقًا علنيًا:
"إن كانت المعلومات صحيحة، فليُحاسَب المسؤولون؛ وإن كانت خاطئة، فليُحاسَب من نشرها."
تشريعات مفصّلة على المقاس
يرى مراقبون أن مثل هذه الصفقات ما كانت لتحدث دون البيئة القانونية التي وفّرها النظام مؤخرًا.
-
ففي عام 2025، صدّق عبد الفتاح السيسي على قانون رقم 170، الذي ألغى القيود على بيع أصول الدولة، وأنشأ وحدة خاصة لـ"متابعة ملكية الدولة"، تحولت – في نظر منتقدين – إلى غطاء قانوني لنقل أصول الدولة إلى المؤسسة العسكرية.
-
كذلك أُلغيَت المادة 27 من قانون القطاع العام، التي كانت تمنع بيع الأسهم إلا بين الشركات العامة، وهو ما فتح الباب أمام خصخصة موجهة لصالح أطراف بعينها.
بيع الوطن على أقساط
الصفقة الأخيرة ليست حالة معزولة.
بل تأتي ضمن سلسلة من نقل الأصول العامة إلى جهات سيادية أو مستثمرين أجانب مقربين من السلطة، وشملت شركات الأسمنت والحديد والموانئ وحتى أراضي العاصمة الإدارية.
ويُجمع خبراء الاقتصاد على أن هذه السياسة لا تقتصر على إهدار المال العام، بل تُعيد تشكيل الاقتصاد المصري ليُصبح أقرب إلى نظام عسكري احتكاري، يُقصي القطاع الخاص ويقوّض المنافسة، ويحوّل الاقتصاد إلى أداة في يد السلطة.
هل تكون هذه الصفقة نقطة تحوّل في الوعي العام والمساءلة؟
أم أنها مجرد حلقة جديدة في سلسلة طويلة من تفكيك الدولة الاقتصادية تحت مظلة القانون؟
الأسئلة تتراكم، والإجابات – كعادتها – غائبة.