في 22 أغسطس 2025 نشرت صحف محلية أن محافظة القاهرة «تدرس» غلق عدد من الشوارع في وسط البلد ومصر الجديدة وتخصيصها للمشاة، ضمن خطة أوسع لتحويل المنطقة إلى ممشى ومزار سياحي واستعادة الطابع الحضاري، بدلًا من كونه منطقة تجارية مزدهرة.
القرار ـوفق الصياغة الرسميةـ لا يزال في طور الدراسة، لكنه يأتي امتدادًا لمسار حكومي بدأ منذ نقل الوزارات إلى العاصمة الإدارية، وإطلاق خطة شاملة لإعادة توظيف أصول وسط القاهرة عبر الصندوق السيادي، بما في ذلك إخلاء مقار وزارات وطرحها للاستثمار السياحي والفندقي.
هذا التحول أعلنته حكومة الانقلاب مرارًا منذ يناير 2024، متحدثة عن "مناطق مشاة في عطلة نهاية الأسبوع" وجراجات متعددة الطوابق و"مزيج وظيفي" يغلب عليه الترفيه والضيافة.
هذا المشروع يأتي في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية متوترة، حيث تعاني مصر من أزمات اقتصادية متفاقمة وتدهور جودة الحياة، مما يجعل من هذه الأفكار غير مدروسة جيدًا ومعرضة للفشل.
الإجراءات المقترحة وتأثيرها على الحركة المرورية والنشاط التجاري
تشير الدراسات الأخيرة إلى أن خطة الحكومة تعتمد على إغلاق بعض شوارع وسط البلد أمام حركة المرور للسماح بالمشي والتجوال فقط.
لكن الخبراء المروريين، مثل اللواء أحمد عاصم، أكدوا أن وسط البلد يحتوي على شوارع حيوية مثل شارع عبد العزيز في منطقة الموسكي وشوارع أخرى لا يمكن الاستغناء عنها أو تحويلها لممشى لأنها تمثل محاور مرورية هامة تتصل بمناطق أخرى مثل ميدان العتبة وميدان عابدين.
تسببت هذه الإجراءات بالفعل في زيادة التكدسات المرورية، وتراجع الحركة التجارية، حيث يصعب على أصحاب المحال التجارية والمكاتب الإدارية الوصول إلى مواقعهم بسهولة، مما يؤثر سلبًا على دخلهم وأعمالهم.
ازدحام خانق
وسط البلد "ممر إجباري" لحركة عصب القاهرة الكبرى؛ أي إغلاق دائم أو شبه دائم سيعيد توزيع الحركة إلى شوارع أضيق في الأزبكية ورمسيس وطلعت حرب وقصر النيل وباب اللوق، ما يعني أطول زمن رحلة، وتكاليف وقود أعلى، وتلوثًا أشد، وحوادث أكثر.
حتى الجهات الرسمية تتحدث منذ سنوات عن أن حل المشاة في المدن التاريخية يكون بتهدئة السرعات وتوسيع الأرصفة وتنظيم الوقوف لا بحظر شامل للسيارات بلا بدائل للنقل العام ومسارات للدراجات ومواقف حول الأطراف.
واللافت أن نفس المصادر الحكومية تقر بأن "مناطق مشاة نهاية الأسبوع" هي الصيغة الواقعية، لا الغلق الكامل، إذن لماذا ننتقل إلى أقصى الحلول؟
التجارة الصغيرة أول من يدفع
يضم وسط البلد آلاف الورش والمحال والمطابع والمخازن الصغيرة، تعتمد على دخول البضائع صباحًا وخروجها مساءً.
تحويل المنطقة إلى "متنزه سياحي" يغيّر تركيبة الاستخدام لصالح المقاهي والفنادق وسلاسل الملابس، ويطرد أنشطة الإنتاج والخدمات منخفضة الهامش.
تجربة غلق شوارع الألفي والشريفين ومنطقة البورصة سابقًا خلقت "جزرًا ترفيهية" محدودة، لكنها لم تُقدِّم حلولًا لوجستية للتجار في الدربين والموسكي والعتبة، بل زادت تكلفة التوصيل والتخزين.
مع كل إغلاق جديد بلا مواقف طرفية وممرات تحميل مرنة ونوافذ زمنية لدخول المركبات الخفيفة، ستتضرر التجارة المحلية لا محالة.
تصريح مدبولي حول خطة تطوير وسط البلد
في يوليو 2025، أعلن رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي أن الحكومة وضعت رؤية كاملة لاستعادة وسط البلد لتكون منطقة لائقة تتناسب مع التطورات العمرانية والثقافية، وتعمل على تنظيم الأنشطة التجارية والإدارية للحفاظ على جمال المنطقة وتعزيز جاذبيتها السياحية.
لكنه لم يُوضح كيف سيتم التعامل مع التأثير الاقتصادي السلبي الناتج عن إغلاق الشوارع والتكدسات المرورية، خاصة أن العديد من الشوارع مغلقة أو تتجه نحو إغلاقها بشكل جزئي.
بيانات تقييم أصول وسط البلد ودلالاتها
في أغسطس 2025، أعلن صندوق مصر السيادي إنهاء تقييم أصول وسط البلد، حيث بلغ سعر المتر السكني ما بين 20-28 ألف جنيه، والشراء الإداري ارتفع بنسبة 30%، والتجاري تجاوز 80 ألف جنيه.
لكن هذه البيانات لا تعكس بالضرورة تحسنًا حقيقيًا في قطاع التجارة أو حركة الأعمال بوسط البلد، حيث يترافق ذلك مع انحسار أعداد الزوار والمستهلكين بسبب الصعوبات في التنقل وزيادة الازدحام بحكم إغلاق الشوارع.
الفشل في توفير حلول مرورية بديلة
على مدار السنوات الماضية، تم تنفيذ تحويلات مرورية وجراجات متعددة، لكن لم يتم استغلالها بشكل كافٍ بسبب عدم التخطيط الإداري المناسب، خاصة في ظل ازدحام وسط البلد وتداخل استخدام الشوارع بين المشاة والسيارات.
كما أن حلول مثل جراجات متوفرة لم تجذب المواطنين لاستخدامها، مما أدى إلى استمرار تكدس السيارات والشاحنات في شوارع رئيسية مثل شارع الجمهورية وشارع باب الشعرية.
نواب وبرلمانيون ومنظمات مدنية انتقدوا بشدة فكرة تحويل وسط البلد إلى ممشى سياحي بسبب الأضرار المباشرة التي تلحق بالتجار والمواطنين، مؤكدين أن الحكومة تكرر تجارب فاشلة تحت مسميات مختلفة بدون دراسة جدوى واقعية.
بعض النواب وصفوا هذه السياسات بأنها "مشاريع للتجميل على حساب معيشة الناس"، وأشاروا إلى أن استمرار فرض السيطرة العسكرية على الاقتصاد يمنع الدخول الحقيقي لرأس المال والاستثمارات التي تحسن من أوضاع الناس.
العائد المتوقع
رغم وعود الحكومة بأن المشروع سيجذب السياح ويعزز اقتصاد المنطقة، إلا أن الحقائق على الأرض تؤكد خلاف ذلك.
مصر تواجه مشاكل معقدة مثل معدل بطالة 6.1%، عجز مالي كبير، ومعدل تضخم مرتفع.
في ظل هذه الظروف، فإن تحويل وسط البلد إلى ممشى سياحي بدون بنى تحتية متطورة وحلول مرورية فعالة من شأنه أن يزيد من معاناة السكان والتجار بالأحياء المجاورة، وهذا لا يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية الحالية التي وصفها خبراء بأنها "مهينة" وفاشلة.
إن مواصلة تطبيق هذه السياسات في وسط البلد يمثل خطرا مباشرا على النشاط التجاري والتقليدي للمنطقة، والتي كانت لأعوام مصدر رزق للأسرة المصرية، ويبقى السؤال عن جدوى هذه القرارات في ظل استمرار الفشل الاقتصادي والعجز وعدم وجود حلول حقيقية.
ماذا تقول حكومة الانقلاب ؟ وما الذي تخفي؟
رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي شدد في اجتماعات متابعة "القاهرة الخديوية" على الحفاظ على الطابع المعماري مع تعظيم الاستفادة من الثروة العقارية.
والصندوق السيادي ـ بلسان رئيسه التنفيذي أيمن سليمان ـ قال إن الخطة تتضمن "مناطق مشاة في عطلة نهاية الأسبوع" وجراجات، وإعادة توظيف مجمع التحرير ووزارة الداخلية السابقة وفندقًا اقتصادياً ضمن مركّب أعمال.
لكن ما لا تقوله البيانات:
كيف سيصل الموظفون والطلاب والمرضى إلى خدمات وسط البلد؟
أين خريطة الخطوط البديلة للحافلات والمترو والميكروباص؟
وما أثر الغلق على زمن الاستجابة للطوارئ؟
أسئلة بلا إجابات حتى الآن.