شهدت محافظة المنيا في صعيد مصر، خلال الشهور الماضية وحتى أغسطس 2025، سلسلة من الجرائم المروعة التي طالت أطفالا وأسرًا بسيناريوهات مأساوية تطرح تساؤلات كبيرة حول الأوضاع الاجتماعية والأمنية في مصر تحت حكم عبد الفتاح السيسي.
من أبرز هذه الوقائع جريمة قتل أطفال في قرية دلجا بسبب تسميم متعمد، ولم تكن مجرد حادثة معزولة بل تظهر مؤشراً على تدهور الأمان الاجتماعي وانتشار العنف كظاهرة متنامية في البلاد.
من "المرض الغامض" إلى "الخبز المسموم"
في أقل من شهر، اهتزّت قرية دلجا بمركز دير مواس التابع لمحافظة المنيا، على وقع وفاة ستة أطفال تباعًا، ثم لحق بهم والدهم بعد أيام.
وفيما راجت روايات عن "مرض غامض"، حسمت النيابة العامة في 27 يوليو 2025 أن العينات المأخوذة من الضحايا تحتوي على مادة مبيد حشري قاتلة تُعرف بـالكلورفينابير، قبل أن تعلن وزارة الداخلية مساء الأحد 24 أغسطس 2025 أنّ زوجة الأب هي من دسّت السم في الطعام، كاشفة الدافع والملابسات كاملة.
الحقيقة.. "غيرة" تحوّلت إلى مجزرة
تفاصيل وزارة الداخلية قالت إن زوجة الأب الثانية وضعت مادة سامة في الخبز "عيش شمسي" الذي أعدّته لأبناء زوجها، بعد أن ردّ الزوج زوجته الأولى إلى عصمته مؤخرًا، فاعتقدت المتهمة أن مصيرها الفُرقة.
هذه الاعترافات نقلتها مواقع وصحف عدّة متوافقة في الجوهر، مع تأكيد أن التحريات والطب الشرعي حدّدا المادة السامة والمسار الزمني للوفاة، وأن وفاة الأب أعقبت موت آخر أبنائه بأيام.
دليل الطب الشرعي.. ماذا يفعل "الكلورفينابير" في الجسد؟
يوضح أساتذة السموم أن الكلورفينابير مبيد يُستخدم زراعيًا ويُعد "قاتلًا صامتًا" يتحوّل داخل الجسم إلى مركّب فعّال يُعطّل إنتاج الطاقة في الخلايا ويقود إلى فشل جهازي وتأخر في ظهور الأعراض؛ نصف غرام قد يقتل بالغًا، وفق شروح علمية لخبراء مصريين وتقارير صحفية، هذه الطبيعة المخاتلة فسّرت لماذا غلب على الواقعة طابع "المرض الغامض" في بدايتها.
أبعد من جريمة فردية.. ثغرات تنظيم المبيدات ومسؤولية الدولة
حين تقول الدولة إن القاتل "زوجة أب"، لا يعني ذلك أن مسؤوليتها تنتهي عند باب البيت، فملف المبيدات في مصر مثقل بالثغرات؛ تحقيقات استقصائية حديثة وثّقت تكرار رفض شحنات زراعية مصرية في أوروبا لاحتوائها على مبيدات محظورة مثل الكلوربيريفوس، ما يعكس اختلالًا في الرقابة والسوق السوداء للمبيدات.
ورغم قرارات لجنة مبيدات الآفات بحظر تسجيل وتداول هذه المادة على جميع المنتجات الغذائية (قرار توسّع في 8 مارس 2022)، ظل التطبيق متذبذبًا.
فكيف لمادة فتاكة مثل الكلورفينابير أن تُقتنى وتُستخدم منزليًا بهذه السهولة؟ سؤال لا تجيب عنه بيانات الداخلية وحدها.
المنيا.. فقر مُركّز
حادث دلجا لم يقع في فراغ اجتماعي؛ فالمنيا من بين أفقر محافظات مصر تاريخيًا؛ وصلت نسبة الفقر فيها إلى نحو 50–55% بحسب موجات بحث الدخل والإنفاق في 2017/2018، مع تحسّن محدود لاحقًا على مستوى الجمهورية.
إن هشاشة الدخل تعني تخزين مواد خطرة في البيوت، وضعف وعي المخاطر، واستبدال سبل الوقاية الرخيصة بالآمنة، كل ذلك يضاعف احتمالات التسمم العرضي أو المتعمّد، ويضع عبئًا أكبر على إنفاذ القانون والصحة العامة.
لماذا تأخّر الإنقاذ؟
تُظهر الواقعة أيضًا هشاشة الاستجابة الطبية في الأطراف، أعراض تسمّم مبيد بطيء التأثير تحتاج تشخيصًا سريعًا وعناية مركزة قد لا تتوافر قريبًا أو مجانًا.
وإذا كانت الحكومة تتباهى بتراجع التضخم العام إلى نحو 13.9% في يوليو 2025، فإن تكاليف العلاج والأدوية والنقل بقيت مرتفعة، وتآكلت القدرة الشرائية للأسر الريفية، ما يُرجّح تأخر طلب الرعاية أو قطعها، هذه حقائق لا تُلغيها الأرقام الرسمية الوردية.
أين المساءلة؟
أثار الحادث موجة تعاطف وغضب، ودعت الرموز الشعبية، إلى متابعة دقيقة لجذور الكارثة وحماية الأسر الريفية من تكرارها، لكن المتابعة لا تكفي بلا مساءلة تنظيمية؛ من أين أتت المادة السامة؟ كيف تُباع؟ من يضبط السوق؟ وأين حملات التوعية المحلية؟ تلك أسئلة لا تكفي معها بيانات التطمين التقليدية.
إن تقارير الشرطة تشير إلى دافع عائلي مباشر (غيرة وتهديد باستقرار الزواج)، لكن البيئة الاقتصادية المُجهِدة تضاعف خطورة النزاعات داخل البيوت؛ فالتضخم الذي تراجع نسبيًا في الأشهر الأخيرة لا يُلغي أن المصريين ضاعفوا إنفاقهم على الطعام بين 2022 و2024 إلى قرابة 4 تريليونات جنيه، ما يضغط على ميزانيات الأسر ويؤجّج التوترات.
ما الذي يجب أن يحدث الآن؟
- تحقيق جنائي محايد يتيح للرأي العام نتائج المختبر الجنائي ومصدر السم، لا مجرد خاتمة تُسدل على القضية.
- خطة طوارئ صحية في الصعيد لتشخيص حالات التسمم بالمبيدات وتوفير مضادات وتدريب للكوادر.
- حملة ضبط للمبيدات تتتبّع سلاسل التوريد غير المشروعة، مع نشر قوائم “محظورات” مبسطة للأهالي.
- شبكة حماية اجتماعية في القرى الأكثر فقرًا بالمنيا، تربط بين الرعاية الصحية والدعم المعيشي والتوعية.
مسؤولية النظام لا تُختزل في القبض على متهمة
هذه الجريمة ليست استثناءً بل هو واقع العقد الاجتماعي المختل: رقابة ضعيفة على مواد قاتلة؛ فقر ريفي مزمن؛ خدمات صحية غير عادلة جغرافيًا؛ وتواصل رسمي يُعلن النتيجة دون أن يُعلن الدرس.
إن الأمن هو آخر حلقة في السلسلة؛ لكن الحُكم الرشيد يبدأ من تنظيم السوق، وتحصين الصحة العامة، ومصارحة الناس بالأرقام، لا الاكتفاء ببيانات "ضبط الجاني".