تتصدر أزمة الإيجار القديم المشهد الاجتماعي في مصر، وسط جدل واسع بين المستأجرين والملاك، وبين الوعود الحكومية بحلول "عادلة" والواقع الذي يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم.
فبينما تروّج الحكومة لخططها على أنها "تحمي حق المواطن وتراعي محدودي الدخل"، يكتشف المستأجرون أن الطريق للحصول على وحدة بديلة مليء بالعقبات والشروط المستحيلة، وأن ما يُعلن في الإعلام لا يمتّ للواقع بصلة.
غضب المستأجرين
"بعد أربعين سنة عايش في نفس البيت.. هيجوا يرمونا في الشارع؟ هنروح فين؟" بهذه الكلمات المليئة بالخوف والقلق تتحدث أم حسن، سيدة خمسينية، عن مصيرها بعد إعلان الحكومة نيتها تطبيق قانون الإيجار القديم على الوحدات السكنية. كلماتها ليست مجرد شكوى، بل صرخة تعبّر عن معاناة آلاف الأسر التي تجد نفسها اليوم بين مطرقة الملاك وسندان قرارات الدولة.
شروط قاسية... وأحلام مهددة
الحكومة تعلن عبر الإعلام أنها توفر وحدات بديلة للمستأجرين، لكنها لا تقول إن هذه الوحدات تحتاج إلى مقدمات ضخمة وأقساط باهظة.
كيف لمواطن يعيش على راتب لا يتجاوز 3 آلاف جنيه أن يوفر 150 ألف جنيه مقدمًا لشقة جديدة؟ كيف لمسنّ يعيش على معاش 1200 جنيه أن يتحمّل هذه الأعباء؟
الحقيقة أن الحكومة تقدم حلولًا صورية لا تمت للواقع بصلة، وتبيع الوهم في صورة تصريحات منمّقة عن "التطوير" و"العدالة الاجتماعية".
أسر في مواجهة التشرد
وراء كل شقة إيجار قديم قصة إنسانية لا يلتفت إليها المسؤولون. هناك من أمضى شبابه كله في هذه البيوت، ربّى أبناءه تحت سقفها، وحلم أن يعيش بقية حياته فيها بسلام.
اليوم، هذه الأسر تواجه شبح الطرد لأن الحكومة قررت فجأة أن تعيد "تنظيم" العلاقة بين المالك والمستأجر، دون أن تسأل نفسها: إلى أين سيذهب هؤلاء؟ من سيوفّر لهم الأمان بعد أن أفنوا أعمارهم في هذه المنازل؟
بدلًا من وضع حلول واقعية تتناسب مع دخول المواطنين، تصدر الحكومة صورة وهمية بأنها "تحمي حقوق الجميع".
الحقيقة أن المستأجر البسيط لا يرى سوى تصريحات على الشاشات، بينما في الواقع يُطلب منه ما لا يطيق. لا برامج دعم حقيقية، ولا تسهيلات تمويلية، ولا بدائل تناسب محدودي الدخل. كل ما هناك هو وعود زائفة تُسكِّن الخوف مؤقتًا، ثم تترك الناس يواجهون مصيرهم المجهول.
شروط معقدة وواقع مؤلم
الحكومة أعلنت في أكثر من مناسبة عن توفير وحدات بديلة للمستأجرين بعد تطبيق قانون الإيجار القديم على الوحدات غير السكنية، ومع اقتراب مناقشة الإيجار السكني، لكنها لم توضّح حقيقة الشروط التي وضعتها للحصول على هذه الوحدات.
المستأجر الذي عاش في شقة بالإيجار القديم لعقود، يُطلب منه الآن دفع مقدمات مالية ضخمة وأقساط تفوق قدرته، وكأنه يُعاقَب على كونه التزم بدفع الإيجار لسنوات طويلة.
كيف يمكن لمواطن محدود الدخل أن يوفر مقدم 150 ألف أو 200 ألف جنيه للحصول على شقة بديلة؟ أليس هذا هو نفس المواطن الذي كانت الحكومة تزعم حمايته؟
لماذا لا تكون هناك بدائل حقيقية تتناسب مع قدراته المالية بدلًا من تحميله فوق طاقته؟
الوعود الإعلامية... والحقيقة المرّة
الإعلام الحكومي يصوّر المشهد على أن الدولة تقف إلى جانب المستأجرين وتوفّر لهم وحدات عصرية في مناطق جديدة، بينما الحقيقة أن هذه الوحدات ليست مجانية، ولا حتى منخفضة التكلفة.
الحكومة تبيع الوهم للمواطنين عبر تصريحات رنّانة عن "التطوير" و"العدالة الاجتماعية"، بينما في الواقع تدفعهم إلى خيارات لا يمكنهم تحمّلها.
مستقبل غامض وأسر مهددة بالتشرد
الحديث عن الإيجار القديم لا يتعلق فقط بالمباني، بل بملايين الأسر التي عاشت في هذه الوحدات لعقود.
ماذا سيحدث لهم إذا لم يتمكنوا من دفع هذه المبالغ الطائلة؟ هل ستجدهم الدولة في الشارع بلا مأوى؟
أين الخطة البديلة التي تضمن حق السكن الآمن الذي نص عليه الدستور؟ أم أن الحكومة ترى أن مسؤوليتها تنتهي عند إصدار القوانين وترك المواطنين يواجهون مصيرهم المجهول؟
حكومة تصدر الوهم... وتتنصّل من المسؤولية
الحكومة تحاول الظهور بمظهر "حامي الشعب"، لكنها في الحقيقة تتنصل من دورها الأساسي في توفير السكن الملائم للمواطنين.
بدلًا من وضع حلول واقعية مثل برامج تمويل ميسّرة أو وحدات بإيجارات مناسبة، تضع شروطًا لا يستطيع الوفاء بها سوى المقتدرين.
النتيجة أن المستأجر البسيط يصبح بين مطرقة المالك الذي يريد استرداد وحدته، وسندان الحكومة التي تبيع له وعودًا لا تتحقق.
أزمة مفتعلة وتجاهل متعمد للطبقات الفقيرة
أزمة الإيجار القديم ليست مجرد خلاف قانوني بين المالك والمستأجر، بل هي قضية عدالة اجتماعية تكشف كيف تُدار الملفات في مصر.
الحكومة، بدلًا من وضع حلول منطقية تحمي الطرف الأضعف، تترك السوق يتحكم، وتُصدر صورة زائفة في الإعلام عن "الحرص على مصلحة المواطن".
لكن الحقيقة أن المواطن يدفع الثمن دائمًا؛ ثمن السياسات المرتبكة، وغياب الرؤية، وبيع الأوهام بدلًا من الحلول.
الختام: أزمة تتجاوز القانون
أزمة الإيجار القديم ليست مجرد قانون، بل كارثة اجتماعية تهدّد استقرار ملايين البيوت.
إذا استمرت الحكومة في تجاهل صوت المستأجرين، فإننا سنشهد موجات من التشرد والتفكك الأسري.
المواطن لا يطلب المستحيل، فقط حقه في السكن الآمن الذي وعد به الدستور.
لكن يبدو أن الوعود شيء... والواقع شيء آخر تمامًا.