تعود قضية تيران وصنافير إلى قلب سؤال السيادة والقرار السياسي في مصر؛ هل تنازلت السلطة عن أرضٍ مصرية؟ ولماذا الآن؟

منذ توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية في 8 أبريل 2016 انفجرت الأزمة شعبياً وقضائياً وسياسياً، قبل أن يُقرّها البرلمان في 14 يونيو 2017 ويُصدّق عليها قائد الانقلاب العسكري عبدالفتاح السيسي في 24 يونيو 2017، لتتحوّل الجزر عملياً إلى السيادة السعودية، مع ترتيبات أمنية تمس الملاحة وإعادة تموضع قوات المراقبة الدولية.

زيارة عبد الفتاح السيسي للسعودية كانت محفزاً لتسريع إجراءات التسليم النهائي للجزيرتين، ففي منتصف عام 2024، خلال زيارات رسمية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى القاهرة، تم الاتفاق على دفع ملف توقيع تسليم الجزيرتين إلى نهاياته القانونية، بما في ذلك إرسال خطاب تسليم رسمي لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، ضمن ترتيبات خاصة بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة عام 1979 التي تنص على إشراف دولي على الجزيرتين.

هذه الزيارة وملف تيران وصنافير توضح أن هناك مصالح استراتيجية وأمنية وسياسية أعمق وراء التنازل، يتمثل أحدها في دعم التحالف المصري السعودي، وربط هذه الجزيرتين الاستراتيجيتين بأجندة تحالفات إقليمية ودولية.

 

"إعادة التسمية" وربطها بالزيارات الرسمية

منذ الإقرار البرلماني والتصديق الرئاسي من قائد الانقلاب العسكري عبدالفتاح السيسي، ظهرت الجزر في الوثائق والخرائط الرسمية باعتبارها سعودية، وترافق ذلك مع خطوات سعودية أوسع في البحر الأحمر ضمن مشاريع “نيوم” والجسر المزمع عبر مضيق تيران.

سياسيًا، ارتبط ملف استكمال ترتيبات النقل ووجود القوة متعددة الجنسيات بمسارات دبلوماسية تَكثّفت خلال زيارات رئاسية واقتصادية، وبلغت ذروتها أثناء جولة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة في يوليو 2022 حين أُعلن عن مغادرة عناصر من القوة الدولية للجزيرة واستبدالهم بأنظمة مراقبة بالكاميرات لضمان حرية الملاحة لإسرائيل في خليج العقبة.

هذه الحزمة جاءت ضمن تفاهمات أميركية سعودية مصرية إسرائيلية متزامنة مع فتح الأجواء السعودية لطيران متجه من/إلى إسرائيل.

هنا تتجاوز “إعادة التسمية” حدود الخرائط إلى ترتيبات أمنية وسياسية أعمق جرى تثبيتها تحت غطاء الزيارات والصفقات.

 

ما المقابل؟ اقتصاد السياسة وحدود السيادة

منتقدو السلطة يرون أن الثمن كان مالياً وسياسياً: حزمة تمويلات ونفط واستثمارات ووعود بمشروعات، أبرزها صندوق استثماري سعودي مصري بقيمة 60 مليار ريال (نحو 16 مليار دولار) واتفاق تمويل نفطي يقارب 23 مليار دولار لإمداد مصر بــ700 ألف طن منتجات شهرية لخمس سنوات، وكلها أُعلنت خلال زيارة الملك سلمان للقاهرة في أبريل 2016، وهي الزيارة نفسها التي شهدت إعلان الاتفاقية.

لاحقًا عُلّقت شحنات أرامكو في أكتوبر 2016 قبل أن تُستأنف، ما أظهر هشاشة “الاعتمادية” على هذا المسار.

قراءة الخبراء: سلطة الانقلاب قايضت السيادة بالسيولة.

قراءة حكومة الانقلاب: ترسيم فنيّ لحدود تاريخية وتعاونٌ اقتصادي مشروع.

وهذا نص اعتمادها في برلمان العسكري بصوت علي عبد العال، رئيس مجلس النواب، أثناء تمرير الاتفاقية (14 يونيو 2017) "أُعلن موافقة المجلس نهائيًا على اتفاقية تعيين الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية…."..

 

هل تنازل السيسي عنها؟

بالفعل، من الناحية الإجرائية، صدّق قائد الانقلاب العسكري عبدالفتاح السيسي على الاتفاقية في 24 يونيو 2017 بعد موافقة البرلمان، ثم جاءت المحكمة الدستورية العليا في مارس 2018 لتَحسم التعارض القضائي معتبرة أن اختصاص المعاهدات للبرلمان والرئاسة، ما منح الغطاء الدستوري للنقل رغم أحكام القضاء الإداري التي سبقت وأكدت “مصرية” الجزر وأبطلت الاتفاقية.

قانونيًا؛ وقّعت السلطة التنفيذية وأقرّت السلطة التشريعية فصار التنازل واقعًا نافذًا.

سياسيًا؛ يبقى توصيف “التنازل” محل اتهام للحكومة والسلطة ومسؤولية مباشرة على السيسي بوصفه من صادق على الاتفاقية.

القاضي أحمد الشاذلي (يناير 2017): “سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير مقطوعٌ بها”، حكمٌ قوبل بهتافات “مصرية.. مصرية” قبل أن يُلتفّ عليه تشريعيًا.

 

ماذا سيبيع السيسي بعد أرض البحر الأحمر؟

هذا السؤال بات شعارًا احتجاجيًا أكثر منه استفسارًا قانونيًا، فبعد تمرير تيران وصنافير، يُخشى من تحويل أزمات السيولة إلى بابٍ للتفريط في أصول الدولة عبر الخصخصة السريعة أو التنازل عن مزيد من الأصول الاستراتيجية، خصوصًا مع موجات “التخارج” وبيع حصص في شركات عامة وأصول موانئ.

لا توجد وثائق رسمية تُثبت نية بيع أراضٍ حدودية جديدة على غرار الجزر، لكن نمط المقايضة السياسية الاقتصادية الذي ظهر في 2016–2017، ثم الحاجة الدائمة للعملة الصعبة، يغذي المخاوف الشعبية من “تكرار النموذج” بأشكال أخرى (أراضٍ ساحلية، مرافئ، أصول سيادية).

هنا يلفت محللون إلى خطط الجسر السعودي المصري وربطه بمشروعات “نيوم”، ما يعني أن أي تفاوض مستقبلي سيمر عبر عقدة مضيق تيران وترتيبات الملاحة والضمانات الإسرائيلية.

 

التسلسل الزمني منذ الحروب حتى اليوم

  • 1954–1956: مصر تؤكد أمام مجلس الأمن أن الجزيرتين تحت إدارتها منذ 1906، وتُنشر قوات لحماية قناة السويس؛ ثم تدخل إسرائيل الجزيرة لفترة وجيزة خلال أزمة السويس.
  • مايو 1967:  إغلاق مصر مضايق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية كان سببًا مباشرًا لحرب الأيام الستة؛ احتلت إسرائيل سيناء والجزر حتى 1982.
  • 1979 : معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية تُكرّس حرية الملاحة في خليج العقبة، وتُقام قوة المراقبة متعددة الجنسيات (MFO) بترتيبات تشمل تيران.
  • 8 أبريل 2016:  توقيع اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية خلال زيارة الملك سلمان للقاهرة، وإعلان مشروع الجسر.
  • 2016 يناير2017: القضاء الإداري يبطل الاتفاقية ويؤكد مصرية الجزر؛ ثم تتواصل معارك الاختصاص بين دوائر قضائية.
  • 14 و24 يونيو 2017:  البرلمان يوافق، والسيسي يُصدّق؛ لتنتقل السيادة عمليًا إلى السعودية.
  • مارس 2018 : الدستورية العليا تُرجّح كفة البرلمان والرئاسة وتُسقط الأحكام المناقضة.
  • يوليو 2022:  الإعلان عن خروج جزء من عناصر القوة الدولية من تيران واستبدالهم بكاميرات مراقبة ضمن ترتيبات أوسع خلال زيارة بايدن للمنطقة.

داخل البرلمان، شهدت الجلسات اعتراضات من نواب قلائل وصفت الخطوة بـ“التفريط”، وخارج المؤسسة طالب محامون وسياسيون بإبطال الاتفاقية ورفعوا عشرات الدعاوى، وتجددت محاولات قانونية في 2025 لإحياء النزاع.

حتى حسني مبارك، في تسجيل متداول عام 2017، قال إن “تيران وصنافير مصريتان بحكم القضاء”.

هذه المواقف، وإن لم توقف الإقرار التشريعي، تُثبت أن القضية لم تُحسَم مجتمعيًا.

ربطُ خطوات “إعادة تسمية” الجزر للسيادة السعودية بمواعيد الزيارات الرسمية ليس مصادفة، بل هو جزء من مقايضة أوسع: سيولةٌ عاجلة مقابل تنازلاتٍ استراتيجية طويلة الأمد.

الوقائع الصلبة تقول إن: البرلمان وافق، والسيسي صدّق، والدستورية حصّنت؛ لكن الوقائع ذاتها تكشف أن المسار جرى وسط أحكامٍ قضائية مُخالفة واحتجاجات شعبية وصفقات مالية نفطية ضخمة في التوقيت نفسه.

وبقدر ما تُظهر ترتيبات 2022 أن ملف تيران وصنافير صار حلقة في سياق إقليمي أكبر (ملاحة إسرائيل، مراقبة دولية، نيوم والجسر المحتمل)، فإن السؤال السياسي باقٍ:

من يقرر مصير الأرض في مصر؟

وعلى أي أساس تُقاس المصلحة القومية؟

بالنسبة لخصوم حكم السيسي، كانت الجزر الثمن الأعلى في معادلة بقاءٍ قصيرة النظر؛ أما المكاسب الموعودة، فظلت رهينة وعود ومشروعات متأرجحة، بينما خسر المصريون قطعة من خرائط الذاكرة الوطنية.