في الوقت الذي تشن فيه السلطات الأمنية حملة اعتقالات ضد صُنّاع المحتوى المستقلين بتهم “نشر أخبار كاذبة” و”الإضرار بالأمن القومي”، أعلنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، الذراع الإعلامية للمخابرات المصرية، عن توقيع شراكة استراتيجية مع منصة “تيك توك”، إحدى أكثر التطبيقات انتشارًا بين الشباب المصري.
هذه الخطوة تثير تساؤلات عن ازدواجية المعايير، ومحاولة النظام إحكام السيطرة على الفضاء الرقمي بعد فشله في الهيمنة على الإعلام التقليدي.
الهدف المعلن هو دعم السياحة الثقافية والترويج لمصر حضاريًا ولاستغلال الاقتصاد الإبداعي، لكن في حقيقة الأمر هي محاولة لإكساب النظام شرعية رقمية وتحسين صورته الدولية في وقت يعاني من انتقادات واحتجاجات داخلية مكثفة.
تفاصيل الشراكة مع تيك توك
أعلنت الشركة المتحدة، إحدى كبرى الكيانات الإعلامية في المنطقة العربية، عن شراكة مع تيك توك كشريك رقمي رسمي لحفل الافتتاح التاريخي للمتحف المصري الكبير.
وحسب إعلان 20 أغسطس 2025، تهدف هذه الشراكة إلى الاستفادة من وصول المنصة الرقمية إلى أكثر من مليار مستخدم حول العالم، مع إعادة صياغة المحتوى بما يتناسب مع الهوية المهنية والثقافية المحلية...
وفقًا لما صرح به طارق مخلوف، العضو المنتدب لشركة المتحدة، فإن التعاون مع تيك توك يفتح "آفاقًا جديدة لتمكين صناع المحتوى من نقل قصة مصر التي لا تقارن إلى العالم، ودعم السياحة الثقافية والاقتصاد الإبداعي".
حملة أمنية متزامنة
خلال الأسابيع الماضية، نفذت وزارة الداخلية المصرية حملة موسعة استهدفت أكثر من 20 صانع محتوى على منصات مختلفة، أبرزها “تيك توك” و“فيسبوك”، بتهم تتراوح بين “إساءة استخدام وسائل التواصل” و“نشر شائعات”.
وبحسب تقرير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان (يونيو 2024)، تم القبض على ما لا يقل عن 70 ناشطًا وصانع محتوى منذ بداية العام، في إطار ما تصفه السلطات بـ“ضبط الفوضى الرقمية”.
في هذا السياق، يرى المحلل الحقوقي خالد منصور أن “النظام يسعى إلى مصادرة أي صوت خارج سيطرته، خاصة الأصوات الشابة التي اكتسبت تأثيرًا واسعًا على المنصات الرقمية”.
صفقة التيك توك.. تكريس الهيمنة على الفضاء الإلكتروني
في ظل هذه الحملة، أعلنت الشركة المتحدة، المملوكة لصندوق الاستثمار التابع لجهاز المخابرات العامة، عن شراكة مع منصة “تيك توك” بهدف “تعزيز التعاون في صناعة المحتوى الرقمي، وتقديم أعمال تتماشى مع قيم المجتمع والهوية الثقافية”، بحسب البيان الصادر يوم 21 أغسطس 2024.
وتستحوذ الشركة المتحدة على 80 % من السوق الإعلامي المصري، وتدير شبكات فضائية مثل ON وDMC، وصحفًا رقمية مؤثرة.
الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز علق على الصفقة قائلًا: "الشراكة تعكس محاولة النظام احتكار حتى المنصات العالمية التي لطالما مثلت مساحة للتعبير الحر، بعد فشله في كسب ثقة الجمهور عبر إعلام الدولة".
كيف تُبرر الدولة تناقضها؟
السؤال الأبرز الذي يطرحه المراقبون: كيف تُلاحق الدولة صُنّاع المحتوى المستقلين بحجة “حماية القيم”، بينما تعقد صفقات مع نفس المنصات التي تتهمها بأنها “تهدد الأمن القومي”؟
الإعلامي المعارض بلال فضل يرى أن “النظام يريد تحويل تيك توك من منصة حرة إلى ذراع جديدة للدعاية الرسمية، مستهدفًا الجيل الذي هرب من شاشات التلفزيون إلى الشاشات الصغيرة”.
إحصائيات We Are Social 2024 تشير إلى أن عدد مستخدمي تيك توك في مصر تجاوز 35 مليون مستخدم، ما يجعلها أكبر منصة ترفيهية للشباب المصري.
الأبعاد الاقتصادية.. هل الصفقة لتسويق الدعاية أم لتعويض الفشل؟
الوضع الاقتصادي المتدهور يفرض على النظام البحث عن أدوات دعائية جديدة، خاصة بعد انهيار الثقة في الإعلام الرسمي.
بحسب تقرير البنك الدولي الصادر في يوليو 2024، تجاوزت نسبة التضخم في مصر 39 %، فيما فقد الجنيه المصري نحو 70% من قيمته خلال عامين.
في ظل هذا التراجع، تتنامى الاحتجاجات الرقمية باعتبارها البديل الآمن للاحتجاج في الشوارع. الخبير الاقتصادي هشام قاسم يوضح: السلطة تسعى لتضليل الرأي العام عبر أدوات أكثر تأثيرًا على الجيل الجديد، لتجنب الانفجار الشعبي المحتمل.
قلق من السيطرة على المحتوى
التوجه المصري أثار انتقادات بعض المنظمات الحقوقية الدولية، فقد حذرت هيومن رايتس ووتش في بيانها الأخير من “محاولات الحكومات الاستبدادية لاستخدام المنصات الرقمية كسلاح دعائي”، معتبرة أن هذه الشراكات “تهدد حرية التعبير وتحوّل المنصات إلى أذرع للرقابة”.
كما أشار الدبلوماسي الأوروبي السابق مارك بيرنييه إلى أن “التحكم في المحتوى الرقمي أصبح السلاح الجديد للأنظمة السلطوية التي تخشى وعي الشباب، خاصة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية”.
دولة تُحارب الحرية وتحتضن الدعاية
الصفقة بين “المتحدة” و”تيك توك” ليست مجرد تعاون إعلامي، بل هي جزء من استراتيجية أوسع لإعادة صياغة الفضاء الرقمي لصالح السلطة، بعد أن أدركت أن المعركة لم تعد في الصحف والتلفزيون، بل على شاشات الهواتف.