أعلنت وزارة الداخلية في مصر، بتاريخ 22 أغسطس 2025، ضبط وكرٍ أسفل أحد كباري الجيزة، ما سُمِّي إعلامياً بـ"الثقب الأسود"، وضبط 20 شخصاً، بينهم 8 سيدات و5 أطفال، بتهم حيازة أسلحة بيضاء واستغلال الأطفال في التسول.

جاء هذا الإعلان في ظل تزايد حالات الاعتقال التعسفي والقمع المستمر الذي تمارسه أجهزة الأمن ضد الفئات الضعيفة والمهمشة، مما يعكس استمرار نهج القمع السلطوي الذي بدأ مع انقلاب 2013 بقيادة عبد الفتاح السيسي.

"الثقب الأسود" هو اسم إعلامي لمنطقة فقيرة جداً تضم أحياءً عشوائية تعيش أسفل الكباري والجسور في الجيزة، حيث يتجمع من لا مأوى لهم.

رصدت تقارير حقوقية محلية ودولية أن تلك الأحياء تعاني من إهمال حكومي متعمد بسبب الفقر والتشرد وغياب الخدمات الأساسية، مما يدفع الأطفال إلى التسول والانخراط في أعمال خطرة كوسيلة للبقاء.

وفق تقارير عام 2024، شهدت نسبة التسول واستغلال الأطفال في مصر ارتفاعاً بسبب السياسات الاقتصادية القاسية والتضخم، حيث يُقدَّر عدد الأطفال العاملين في الشوارع بعدة آلاف.

لا يمكن قراءة هذا الحادث بمعزل عن سياق أوسع من تدهور الظروف المعيشية وارتفاع معدلات الفقر والتضييق الحقوقي؛ فبدلاً من أن تكون إجراءات الحماية الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي هي الردَّ الطبيعي، تعمد الدولة إلى معالجة الظاهرة أمنياً فقط، ما يبرز إخفاق سياسة الحكم في حماية الفئات الأضعف.

أعلنت أجهزة الأمن بالجيزة ضبط "فتحة" أسفل كوبري في نطاق قسم الأهرام، وأسفرت أعمال البحث والتحري عن ضبط 20 شخصاً، منهم 8 سيدات و5 أطفال، وُجد بحوزة بعضهم 9 قطع من الأسلحة البيضاء، بحسب بيان أمني وتغطيات صحفية محلية. وذكرت السلطات أنها اتخذت إجراءات لإغلاق الفتحة وإيداع الأطفال في دور رعاية.
 

لماذا هذا الحدث مهم سياسياً؟
ما يجعل واقعة "الثقب الأسود" مادةً سياسية هو أنها لا تظهر كحادث فردي منعزل، بل كأيقونة لصراع مستمر بين خطاب رسمي يدّعي إدارة أزمة اقتصادية واجتماعية، وواقع يُظهر اتساع دائرة الفقراء والمهمشين الذين يجتاحون فضاءات المدينة بحثاً عن لقمة عيش أو على الأقل مكان للاختباء.

التعاطي الأمني وحده (ضبط، إغلاق، تحويل الأطفال إلى دور رعاية) لا يعالج الأسباب الجذرية: الفقر، البطالة، تآكل شبكات الحماية الاجتماعية، والاحتكار في أسواق السلع والخدمات.
 

حجم المشكلة
وفق تقديرات ومراجعات المؤسسة الدولية "البنك الدولي" والتقارير المرتبطة بها، تبقى نسب الفقر في مصر عند مستويات مرتفعة نسبياً مقارنة بما كانت تُعلنه الحكومة قبل سنوات، مع الإشارة إلى أن الأساليب والمعايير الدولية قد تعطي صورة أكثر حدة لمدى اتساع هشاشة الطبقات.

التضخم المرتفع وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة أضعفا قدرات الأسر على التكيّف، بينما استمرت سياسات التقشف في تقليص شبكة الحماية.

الجهات المحلية، مثل محافظة الجيزة ووزارة الداخلية، سارعت إلى إظهار تحرّك أمني وإداري بإغلاق الفتحات وإخراج المتهمين.

أما منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية فقد ربطت الحادث بسياق عام من تزايد الاعتماد على الحلول الأمنية على حساب السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وطالبت بتقديم حلول جذرية لمعالجة فقر الأطفال واستغلالهم بدلاً من الاقتصار على العقاب الأمني.

تقارير "هيومن رايتس ووتش" ومنظمات أخرى وثّقت ازدياد القيود على الحريات العامة في العامين الأخيرين، مع تآكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
 

لماذا يُعاب على نهج السلطة؟

  • التطويق الأمني لا يُطعم أحداً: إغلاق فتحة أو ضبط مجموعة لا يردّ الفقر ولا يعيد للأطفال أسرهم أو فرص التعليم والدخل. الإجراءات الأمنية قد تطمئن الشارع مؤقتاً لكنها تخلّف آثاراً اجتماعية طويلة الأمد.

  • غياب سياسات حماية اجتماعية كافية: الأدلة الاقتصادية والتقارير الدولية تشير إلى أن تغطية الفقر الرسمية وجهود اللاعبين الاقتصاديين لا تكفي في ظل تضخم متصاعد وتآكل القدرة الشرائية.

  • تحجيم المساءلة: عندما تتحول ظواهر الفقر واحتلال الفراغات الحضرية إلى ملفات أمنية فقط، يصعب فتح نقاش وطني حقيقي حول سياسات الدعم والتشغيل والتنمية الحضرية، مما يعيد إنتاج الفقر بدل معالجته.
     

ما المطلوب الآن؟ (توصيات موجزة)

  • فتح تحقيق شفاف في شبكات استغلال الأطفال، مع إجراءات اجتماعية متزامنة (دعم نقدي مؤقت، برامج تأهيل، تعليم إلزامي).

  • مراجعة سياسات الحماية الاجتماعية وربطها بمقاييس فقر محلية واقعية، لا بالخطاب الأمني فقط.

  • إشراك المجتمع المدني والجهات المستقلة في مراقبة نتائج أي تدخلات، وضمان عدم تحويل مشاكل اجتماعية إلى قضايا أمنية بحتة.

  • إعلان خطة قصيرة ومتوسطة المدى لإنهاء ظاهرة استغلال الأطفال والتسول المنظم، مع مؤشرات عامة للنجاح (انخفاض عدد الأطفال في الشوارع، اندماج في التعليم، فرص عمل للأهالي).

قضية "الثقب الأسود" في الجيزة دليل ملموس على أن الضبط الأمني وحده ليس جواباً، بل هو انعكاس لفشل أوسع في إدارة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وإن استمرّ تعامل السلطة مع النتائج الظاهرية فقط، فسنقرأ حوادث مماثلة كلما انهارت شبكة الأمان الاجتماعي أكثر.