خلال موجات متلاحقة منذ عام 2020، شقّت طرقٌ وجسورٌ واسعة طريقها داخل جبانات القاهرة التاريخية، وبينها نطاق مقبرة الإمام الشافعي في الجنوب، ضمن مشروع حكومي لـ“فكّ الاختناقات المرورية” وإعادة تشكيل العاصمة، مما نتج عنه هدم مئات الأحواش والمقابر ونقل رفات عائلات إلى مدافن بعيدة، فيما تقول حكومة الانقلاب إن “الآثار المُسجَّلة” لن تُمسّ، لكن خبراء حفظ التراث يشيرون إلى أن ما جرى مسّ مقابر عمرها قرون لأن أغلبها غير مُسجّل قانونياً كآثار؛ فالمُسجّل “102 موقع فقط من أكثر من 2.5 مليون قبر”، ما يترك البقية بلا حماية فعليّة.

 

متى بدأ الهدم وكيف تصاعد؟

بدأت التحذيرات والاعتراضات مع أولى الجسور جنوب القاهرة عام 2020، ثم توسّعت الأعمال في 2022–2023، ووثّقت وكالات عالمية في يونيو 2023 دخول الجرافات إلى مناطق إسلامية تاريخية. وفي خريف 2024 عادت الأعمال في نطاق الإمام الشافعي، قبل أن تُعلن وزارة الثقافة تعليقاً مؤقتاً عقب ضجّة واسعة وظهور صور للهدم، ثم تكررت دعوات التجميد مع استمرار القلق حول المسار العام للمشروعات.

وخلال 2025، أفادت تقارير بحثية باستمرار حملات إزالة في نطاقات أخرى من جبانات القاهرة التاريخية. هذه الدوامة من “الهدم ثم التجميد المؤقت” أصبحت نمطاً متكرراً منذ أربع سنوات، وفق منظمات حقوقية وتراثية.

 

لماذا لم يُنقل أو يُرمَّم؟

حكومة الانقلاب تُبرّر بأن الأولوية لشبكة محاور سريعة تربط شرق القاهرة بجنوبها وتخدم إعادة توزيع الكثافات، وأنها “لن تمسّ الآثار المسجلة”، لكن مختصين ردّوا بأن كثيراً من التركيبات الجنائزية ذات القيمة الفنية والمعمارية (قِباب، أسبلة، أحواش عائلية من القرن 19 وبدايات 20) لا تدخل قائمة التسجيل، وبالتالي يجري التعامل معها كأحجارٍ بلا هوية.

كما اقترحت مجموعات مهنية حلولاً بديلة: إعادة مسارات المحاور حول الكُتل التاريخية أو اعتماد حلول نقل جماعي ذكية بدل شقّ طرق عبر جبانات عمرها ألف عام(.

 

لماذا يهدمه السيسي؟

يندرج ما يحدث في الإمام الشافعي ضمن رؤية أوسع لـ“إعادة تشكيل” القاهرة عبر محاور وجسور سريعة ومدن جديدة؛ رؤية دُفعت قُدُماً رغم اعتراض خبراء عيّنتهم الدولة ثم استقالوا احتجاجاً، ورغم كون “القاهرة التاريخية” منطقة تراث عالمي لدى اليونسكو، حتى وكالة أسوشييتد برس وصفت ما يجري بأنه “طرق متعددة الممرات تشقّ مقبرة استُخدمت لأكثر من ألف عام” وأن التوقفات كانت مؤقتة قبيل اجتماعات اليونسكو.

هذه المقاربة ترى في التراث “عائقاً هندسياً”، لا مورداً حضارياً واقتصادياً يمكن دمجه في تخطيط حضري أقل كلفةً على الذاكرة والهوية.

 

أرقام وخسائر على الأرض

  • نحو 2.5 مليون قبر ضمن نطاق الجبانات، بينها مساحات في الإمام الشافعي وسيد عائشة وسيد نفيسة؛ المُسجّل رسمياً كـ“أثر” 102 موقع فقط، ما يفتح الباب لهدم آلاف الأحواش غير المُسجَّلة.
  • تقارير عام 2023 تحدثت عن آلاف المقابر التي طالها الهدم أو الإزالة الجزئية على مراحل، مع نقل رفات لعائلات إلى مدافن بعيدة في مدنٍ خارج القاهرة.
  • في خريف 2024 وثّقت مواد مرئية تجدد الهدم في نطاق الإمام الشافعي ثم إعلان “تعليق مؤقت”، قبل أن تستمر الضغوط الحقوقية.

 

شهادات وتحذيرات

صحفيون ونشطاء تراث وصفوا ما يحدث بأنه “طمسٌ لذاكرة المدينة”، فيما حدّدت منظمات مصرية ودولية “خطاً أحمر” عند العبث بجبانات تحمل بصمة ألف عام.

مبادرة “المصريّة للحقوق الشخصية” طالبت في 29 أكتوبر 2024 بوقف “التدمير المنهجي” الذي يتكرر على موجات منذ أربع سنوات.

كما لفتت رويترز إلى أن اليونسكو طلبت معلومات رسمية وأن الملف أُدرج للمتابعة، فيما لم تُبدِ القاهرة استعداداً لتوسيع التسجيلات بما يحمي باقي المكوّنات التاريخية.

 

أين السعودية والإمارات من المشهد؟

لا توجد عقودٌ معلنة تُظهر تمويلاً خليجياً مباشراً لعمليات هدم جبانات الإمام الشافعي، لكن السياق الاقتصادي يشي بالعلاقة: مصر تعتمد، منذ 2022، على موجات تمويل واستثمار خليجية لتغطية فجوات العملة الصعبة، وبينها صفقة إماراتية ضخمة بقيمة 35 مليار دولار (رأس الحِكمة) أُعلنت في فبراير 2024، مع توقع استثمارات لاحقة في العقارات والبنية الأساسية، إلى جانب إعلانات سعودية عن ضخّ استثمارات بمليارات الدولارات.

اقتصاديون يرون أن هذا الاعتماد يُغري السلطة بتسريع “تهيئة الأرض” لمشروعات عقارية وسياحية ومحاور تنقّل، ولو على حساب التراث، لرفع قيمة الأراضي وربطها بشبكات الطرق الجديدة وتسويق المناطق التاريخية كمسارات سياحة دينية وتجارية، إنها علاقة غير مباشرة: نفوذٌ مالي يُسرّع منطق “المشروع الأكبر”، فيدفع الكُلفة إلى هوية المكان.

 

لماذا تُمحى الهوية الإسلامية؟

المفارقة أن الدولة تتبنّى في إعلامها خطاب “إحياء القاهرة التاريخية” ومسار “آل البيت”، لكن التنفيذ على الأرض يجزّئ الذاكرة إلى “مواقع مختارة” للعرض السياحي، بينما تُسحق طبقاتٌ كاملة من النسيج الجنائزي الإسلامي غير المُسجّل.

هكذا تُستبدل هويةٌ حية، جباناتٌ وقباب وأسبلة وممرات وعلاقات سكّان، بعرض بصري انتقائي يخدم “خط سير” للمركبات والسياح

 خبراء تراث يؤكدون أن حلول النقل العام الذكي وإعادة توجيه المحاور حول الكُتل التاريخية ممكنة، وأن الحفاظ لا يتعارض مع التنمية بل يرفع قيمة المدينة على المدى الطويل، لكن منطق “الإنجاز السريع” وتعبئة السيولة يُرجّح الكفّة للجرافة.

عبّرت اليونسكو عن القلق وطلبت معلومات، فيما استقال خبراء عيّنتهم الحكومة احتجاجاً على توسيع الهدم قبل اجتماعات المنظمة عام 2023.

صحفيون غربيون ومراكز بحث وصفوا ما يجري بأنه “إبادة لذاكرة مدينة الألف مئذنة” لصالح محاور إلى العاصمة الإدارية الجديدة، مع تسجيل موجات غضب شعبي وعري .

شددت منظمات مصرية على أن “التجميد المؤقت” لا يكفي، وأن المطلوب حماية قانونية شاملة وتعديل المسارات.

 

ما المطلوب الآن؟

  1. وقفٌ شاملٌ ونهائي لأي أعمال هدم داخل نطاق الجبانات التاريخية، لا “تعليق مؤقت”.
  2.  إعادة تخطيط المسارات بعيداً عن الكُتل التراثية، وفق دراسات مرور بدائل.

3) توسيع التسجيل الأثري ليشمل الأحواش والقباب ذات القيمة المعمارية حتى لو لم تتجاوز 100 عام، مع توثيق رقمي كامل.

 4) شفافية تمويل المشروعات ووضع تعهّداتٍ علنية بألا تُستخدم الاستثمارات المحلية أو الخليجية غطاءً لطمس ذاكرة إسلامية عمرها قرون.

5) خطة ترميم وعدالة انتقالية للأسر التي هُدمت مدافنها، تشمل التعويض والنقل اللائق وإشراك المجتمع المحلي في الإدارة.

فالقاهرة لا تحتاج إلى طرقٍ فوق عظامها لتكون “حديثة” بل إلى دولة تفهم أن حداثتها تبدأ من احترام موتاها.

خلاصة: ما يجري في مقبرة الإمام الشافعي ليس “تطويراً” بل تفكيكٌ لواحد من أقدم سجلات الذاكرة الإسلامية الحضرية، في سياق اقتصادي وسياسي يُكافئ السرعة على الحساب الكامل للكلفة الحضارية. والمسؤولية السياسية والأخلاقية تقع على سلطة اختارت الجرافة على حساب التاريخ.