طلعت رميح

كاتب صحفي

 

دخل نتنياهو إلى نفق مظلم، وكلما تقدم في السير بات يعمّق مأزقه الإستراتيجي. نتنياهو لم يعد يملك إمكانية الحركة التكتيكية – فقد القدرة على المناورة – وبات أمام خيارات إستراتيجية شاملة، قد تدفعه إلى حرب شاملة في الإقليم وإلى حالة مشددة من العزلة الدولية وزيادة تفكك مكونات مجتمعه.

وهو وإن كان تصوّر أنه يقود حركة إسرائيل وفق إستراتيجية مخططة، بعد الهجوم الإستراتيجي للمقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر، فهو في واقع الحال لم يفعل شيئًا سوى التحرك كردّ فعل على الصعيد العسكري.

تحرك وفق خطط عسكرية مع رفع شعارات ديماغوغية مثل “النصر المطلق”، وحدد أهدافًا عنصرية وعرقية وفق مفاهيم أيديولوجية. وتلك وصفة هتلر، الذي اعتمد إستراتيجية عسكرية كانت فعّالة للغاية، لكنه لم يضع في حساباته الإستراتيجية الوضع الدولي وقوة وقدرة المجتمعات على المقاومة وإعادة التجدد. كما لم يفهم تأثير الثقافات على حشد الطاقات ولا مدى تأثير القدرات الاقتصادية الضخمة للخصوم مقارنة بقدرات بلاده… إلخ.

نتنياهو لم يعد لديه من خيارات الآن سوى طرح أقصى الشعارات تطرفًا، وهو قد يذهب بإسرائيل إلى الانتحار على طريقة النظام العنصري في جنوب إفريقيا. لقد أوصل نتنياهو إسرائيل إلى استخدام الحد الأقصى لقدراتها الإستراتيجية – إلى ما دون النووي – وبات القادم هو الانحدار في منحنى الهبوط، إجباريًا.

 

خيارات المقاومة

وعلى الجانب الآخر، باتت المقاومة في مواجهة خيارات إستراتيجية تتطلب إدراكًا عميقًا لمكانتها ودورها في حركة التاريخ الفلسطيني، لا في معركة غزة الجارية فقط.

وهي إن واصلت معركتها وفق هذا الفهم الإستراتيجي الحضاري الشامل، تظل قادرة على ممارسة تكتيكات متنوعة وفاعلة، بما يمكنها – مع الوقت – من إنجاز المهمة التاريخية التي بدأتها بالهجوم المباغت في 7 أكتوبر. لقد اعتمدت المقاومة إستراتيجية شاملة في إدارة الصراع – لا خطة عسكرية فقط كما فعل نتنياهو – بما منحها القدرة على الحركة على مسارات عديدة وتحقيق مكاسب تراكمية، وحافظ على قدرتها على المناورة. ومعارك التحرير تُكسب بالنقاط لا بضربة عسكرية واحدة كما هو حال الحروب النظامية. والمقاومات تحقق النصر عبر إضعاف الروح المعنوية للجيش والمجتمع الآخر، وعبر الضغط الدولي – الرسمي والشعبي – وعبر إضعاف اقتصاد العدو، وعبر الإعلام لكسب الرأي العام… إلخ.

وإذ يتصور من يعظّمون من تأثير القوة العسكرية – بالأدق قوة النيران – أن إسرائيل أدارت معركة إستراتيجية ناجحة على عدة جبهات، بالنظر لما أحدثته من دمار هائل، وبسبب نجاحها في اغتيال القيادات هنا وهناك، ولما حققته من تغيير لموازين القوى “الظاهرة” على أرض المعارك، فإن من يدركون الأبعاد الإستراتيجية الشاملة وطبيعة المراحل التي تشهدها حروب التحرير، لا شك لديهم تقدير آخر مختلف يقول إن الكيان الصهيوني لم يعتمد إستراتيجية شاملة، وإنما أدار خطط معركة عسكرية – والفارق كبير ونوعي بين الأمرين – وأن المعارك مع حركات التحرير لا تُحسم عسكريًا بقوة النيران، بل إستراتيجيًا وفق قضايا السياسة والعلاقات الدولية والأوضاع المجتمعية والاقتصاد والإعلام، وإلا لكانت الولايات المتحدة قد انتصرت في فيتنام وأفغانستان والعراق، وهي الأقوى عسكريًا من إسرائيل.

 

ملامح الفشل الإستراتيجي

لقد تتالت الخطط العسكرية الإسرائيلية الواحدة تلو الأخرى، دون تحقيق هدف إخضاع إرادة المقاومة والمجتمع الفلسطيني. جرى تغيير رئيس هيئة الأركان ووزير الدفاع – بعد فشل الخطط والأشخاص في تحقيق أهداف لا يمكن تحقيقها بالقوة العسكرية وحدها – وتكررت نفس تجربة الخلاف الآن بين الجيش من جهة، ونتنياهو وزمرته من جهة أخرى.

ونتنياهو إذ حدد خطته العسكرية على أساس قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وتجويعهم وتدمير البنى التحتية، لتكثيف أعلى درجة الضغط على المقاومة وحاضنتها – مثلما فعلت كل جيوش الدول المحتلة – فقد نتج عن ذلك تفكيك الإجماع الغربي على دعم إسرائيل، وكان قد وصل بعد هجوم 7 أكتوبر إلى درجة إرسال البوارج وحاملات الطائرات. تابعنا صدور قرارات مقاطعة وحظر للسلاح من دول غربية، كما تحول الرأي العام الدولي إلى اتخاذ موقف داعم للشعب الفلسطيني. وهو تغيير بالغ التأثير على كيان لا يستطيع البقاء دون الدعم الغربي، ودون تضليل الرأي العام.

والآن، وإذ وصل نتنياهو حد طرح خطط تتعلق بتهجير السكان وتأكيد توجهه نحو حلم “إسرائيل الكبرى”، فهو ذاهب في طريق صراع عسكري شامل مع دول الجوار، الآن أو غدًا، ووفق خطط عسكرية وشعارات متطرفة لا وفق رؤية إستراتيجية شاملة. هو ذاهب إلى معارك لا تنتهي مع دول وشعوب المنطقة، بقدر ما هو متورط في معركة لا تنتهي مع الشعب والوجود الفلسطيني.

وهذا ما حذرت منه القيادة العسكرية الأمريكية منذ وقت مبكر، وما يحذر منه الخبراء تحت عنوان “تكرار هزيمة فيتنام”. فحروب التحرير لا وزن فيها ولا من معايير النصر فيها احتلال الأرض بتفوق قوة النيران، بل القدرة على الاستمرار والحفاظ على إرادة القتال في المجتمع والجيش، واستمرار كسب الرأي العام والدعم الدولي.

كانت الولايات المتحدة قد استخدمت قوة نيران غير مسبوقة، وكانت قد احتلت الأرض ونصبت حكمًا تابعًا لها في فيتنام الجنوبية، ودربت وسلحت نصف مليون من الجيش العميل، ونقلت نحو نصف مليون من جنودها وحلفائها الدوليين لأرض المعركة، لكن كل ذلك انتهى إلى هزيمة مذلة.

في حوار خلال ندوة إستراتيجية حول الحرب بعد عودة العلاقات بين فيتنام والولايات المتحدة، قال ضابط أمريكي إن الجيش الأمريكي لم يُهزم في أية معركة عسكرية قط خلال الحرب، وأكد الضابط الفيتنامي على صحة ذلك، لكنه شرح كيف أن الإستراتيجية الشاملة لا تعتمد على قوة النيران، بل على حشد كل العوامل الأخرى خلال إدارة الصراع.

وقد تكررت ذات التجربة في أفغانستان. والآن تظهر الوقائع أن إسرائيل في طريقها للهزيمة الإستراتيجية لنفس السبب. ولأن نتنياهو يكرر تجربة قديمة – نكبة 48 – وفق نظرية “إبادة حركة جيل”، ولا يفهم أن العالم لم يعد يشهد ظاهرة انفصال وانقطاع الأجيال.

 

أزمة التفاوض والبعد الغامض

يدرك القادة الإسرائيليون – والنخب – أن البعد الأخطر في المفاوضات مع المقاومة الفلسطينية يتعلق بالاعتراف بها واقعيًا، وأن المسار الذي جرى حول قضايا جزئية أو تكتيكية، سوف يذهب بإسرائيل في نهاية المطاف إلى التفاوض مع المقاومة حول قضايا كلية – عبر ثنائية القتال والتفاوض – تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني وبتطبيق القانون الدولي. وهو ما يعتبرونه قبولًا إسرائيليًا مبدئيًا بنهاية المشروع الصهيوني، إذ تتبنى المقاومة إستراتيجية لتحرير فلسطين.

وهم يعتبرون أن ما حدث في 7 أكتوبر هو دليل على تنامي قدرة الإنسان الفلسطيني على رسم وإدارة إستراتيجيات التحرير من فوق الأرض الفلسطينية، لا من دول الجوار، وأن أي تنازل إستراتيجي عبر المفاوضات، يذهب بإسرائيل إلى طريق هزيمة أمريكا في فيتنام وأفغانستان.

ولذلك يعمد القادة الإسرائيليون – دوما – على التأكيد أنهم يتفاوضون مع مجرد إرهابيين خطفوا رهائن، وأنهم ماضون في طريق إنهاء وجود حماس بل إنهاء وجود الشعب الفلسطيني في غزة والضفة. ولذلك أيضًا، هم عطّلوا كل شيء حين جرى الإعلان عن تفاوض مباشر بين حماس والمبعوث الأمريكي ويتكوف، وتحولوا من التفاوض للحصول على مكاسب هنا أو هناك، إلى خطة التهجير واحتلال مدينة غزة.

ويصل الخوف الإسرائيلي ذروته الآن بشأن وقف عملية السيطرة والاحتلال والتهجير. ذلك أن القرار والحركة الآن ذات طابع إستراتيجي حتى وإن بدت مناورة تكتيكية، وأن التراجع عن القرار – تحت الضغط ودون أي إنجاز – يعني انكسار إرادة القيادة السياسية والجيش الصهيوني، والاعتراف بالقدرة الشاملة للمقاومة.

ومعارك المقاومة وإستراتيجيتها ونمط حربها هي سياسية – وبداية التراجع والقبول بمعطيات الواقع الميداني العسكري والسياسي. ونتنياهو يعرف أن تغييرًا سيطرأ على السياسة الإسرائيلية بعد الانتخابات القادمة، إذ الجيش والمجتمع الإسرائيلي تعرضا لإنهاك خطير. وإن انتهاء الحرب الآن، ودخول الصحافة والإعلام الدولي إلى قطاع غزة، لا يعني سوى الذهاب به وسموتريتش وبن غفير إلى محاكمات دولية.