في مفارقة مؤلمة، يشهد العالم كيف يُسمح للفلسطينيين داخل إسرائيل – من فلسطينيي 1948 – بالتظاهر العلني ضد الحرب على غزة، ورفع شعارات تندد بالمجازر المرتكبة بحق المدنيين، بل وتُمنح لهم تصاريح للاحتجاج في المدن المختلطة مثل حيفا ويافا، في حين أن المواطنين في مصر، الجار التاريخي لفلسطين والمفترض أن يكون سندها، يُمنعون حتى من الوقوف في صمت أمام السفارة الإسرائيلية، ويُعتقلون لمجرد رفع علم فلسطين.

في القاهرة، تلقى حزب "التحالف الشعبي الاشتراكي" رفضًا رسميًا على طلبه بتنظيم تظاهرة سلمية قانونية أمام السفارة الإسرائيلية. رئيس الحزب مدحت الزاهد قال إنهم قدموا كل الإخطارات المطلوبة، والتزموا بكافة شروط قانون التظاهر المصري، ومع ذلك رُفض طلبهم دون مبررات واضحة. فهل أصبح دعم فلسطين جريمة في مصر؟

 

التظاهر في مصر: حق دستوري ممنوع بالممارسة

ينص الدستور المصري في مادته (73) على أن: "للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية غير حاملين سلاحًا، بالإخطار كما ينظمه القانون."

لكن الممارسة الواقعية شيء آخر تمامًا. فقد تم التضييق على هذا الحق منذ صدور قانون التظاهر رقم 107 لسنة 2013، والذي أعطى وزارة الداخلية صلاحيات واسعة في رفض أي فعالية، بذريعة "الاعتبارات الأمنية".

وفي الحالات التي تُرفض فيها التظاهرات، لا تقدم الجهات الأمنية مبررات قانونية. بل يتم الاكتفاء بردود شفهية مثل "الأمن الوطني رفض"، أو "الوضع لا يحتمل". وهو ما يتكرر الآن مع الفعاليات المؤيدة لغزة.

ورغم أن المادة 73 من الدستور المصري تكفل الحق في التظاهر السلمي، شرط الإخطار مسبقًا بالجهة الإدارية المختصة.
لكن في الواقع، تواجه هذه المادة قيودًا تشريعية وتنفيذية:

  • القوانين الأخرى (مثل منع التظاهر داخل مدى معين حول السفارات أو نشر أخبار تتعلق بدول أجنبية) تُفرض ظاهرًا وتستخدم كحجج قانونية.
  • الإجراءات الأمنية غالبًا ما تسبق الإخطار بإجابات مسبقة: خاصة إن الموضوع يتعلق بالقضية الفلسطينية أو الكيان الإسرائيلي.
  • المادة 221 من قانون العقوبات تُستخدم لاعتقال المتظاهرين بحجة "نشر أخبار كاذبة" أو "التحريض على العنف".

وفي ظل ذلك، يُعد قرار رفض مظاهرة قانونية تمامًا أمام السفارة الإسرائيلية تشديدًا غير قانوني ويشكك في التزام النُظم بحقوق التعبير.

 

التباين الإسرائيلي: حقّ التظاهر داخل الكيان
داخل إسرائيل، رغم الإجراءات الأمنية، سماح لفلسطينيي الداخل (48) بتنظيم تظاهرات احتجاجية داخل المدن المختلطة ومناطق النقب بين وقت وآخر.

بعض هذه التظاهرات:

  • كانت مباشرة ضد القمع أو انتهاكات حقوق الإنسان.
  • نظمت ضد العدوان الإسرائيلي على غزة.
  • تلقت غالبًا تراخيص من الشرطة، رغم التوتر الأمني.

وهذا يعكس أن النظام الإسرائيلي، رغم قيوده وانحيازه، يسمح — في بعض الأحيان — بتعبير الشعب العربي داخل حدوده، بينما تمنع مصر تمامًا أي تعبير شعبي يُنتقد إسرائيل حتى لو كان سلميًا.

 

تصريح مدحت الزاهد: رفض رسمي وسط الشروط القانونية

أوضح مدحت الزاهد أن حزبه سعى إلى تنظيم المظاهرة بشكل قانوني تام:

  • إخطار مسبق قبل الميعاد القانوني.
  • تحديد المسار أمام السفارة الإسرائيلية.
  • طلب تصريح رسمي، والتأكيد على سلمية الفعالية.
  • عدم المساس بالدستور أو السياسة المصرية الرسمية في التعامل مع القضية الفلسطينية.

ورغم ذلك، جاء الرفض رسمياً، من دون تفسير أو مناقشة، ما يطرح تساؤلاً كبيرًا: لماذا يُمنع التظاهر أمام ممثلية دولة احتلال، بينما يسمح للمواطن الفلسطيني داخل إسرائيل؟!

 

النقد الحقوقي: تقييد حرية التعبير والأسس القانونية

الحقوقيون، بمن فيهم أعضاء من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والهيئة المصرية للنهوض بالمواطنة، أعربوا عن قلقهم:

يجرم رفض الاحتجاج السلمي الأردن ذاته للمواجهة مع الاحتلال، وهو ما يُعتبر تناقضًا أخلاقيًا وقانونيًا.
لهم رأي يرى أن الإخطار المسبق هو حق، وليس طلبًا، وفقًا لتفسير المادة 73.
تمّ استخدام "التحرير السياسي" للبقاء في إطار "السلامة العامة"، رغم أن الاحتجاج ضد إسرائيل هو فعل سياسي متعلق بالقضايا القومية وليست مسألة أمن داخلي.
يطالبون بـ"التمييز بين الأمن القومي والتعبير السياسي المدني"، والإفراج عن أي متظاهر قد يُعتقل لاحقًا.

 

المقارنة الدولية: متى يُسمح بالاحتجاج ضد القمع؟

ألمانيا كحالة مقارنة:
تضم جالية فلسطينية كبيرة نظّمت عدة مظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية في برلين.
لم تفرض السلطة القيود إلا بحالات اختراقات قانونية أو عنف محدود النطاق.
يسري القانون بأن الحق في التعبير السياسية يعلو على الحساسيات الدبلوماسية، ما لم يكن باستهداف أرواح أو حرق أعلام.

الولايات المتحدة:
يتيح القانون الأمريكي تنظيم احتجاجات سلمية أمام السفارات، حتى وإن كانت ضد سياسات الحكومات الأجنبية.
السلطات تسمح غالبًا بالتجمهر، بشرط تقديم إخطار وعدم السير لمسافات غير قانونية.

إسرائيل:
كما سبق، يُسمح لعدد من الفلسطينيين بالتظاهر داخل أراضيها تعبيرًا عن المطالب القومية، رغم أنها دولة الاحتلال.
هذه التناقضات الدولية تُبرز أن رفض مصر للحق في الاحتجاج هو استثناء صارخ لا يرتكز إلى قيود فعلية.

 

الآثار السياسية والاجتماعية للموقف المصري

  • إخلاء الساحة من الموقف الشعبي: مصر في وقت الأزمات الفلسطينية تحتاج إلى أن يعبر شعبها سياسيًا عن غضبه، لكنها تمنع ذلك.
  • إحباط الحركات المدنية: يمنع ذلك على نمو المجتمع المدني أو الصحافي الذي يعتمد على التعبير العام والمشبوه.
  • تفريغ المحتوى السياسي شرقيًا وغربيًا: يسمح فقط بمواقف رسمية، ولا يسمح لأي تعبير شعبي مستقل، مما يخلق فجوة بين الحكومة والشعب.
  • إرسال رسالة سياسية خاطئة للعالم: حين تُقمع الاحتجاجات المدنية السلمية ضد إسرائيل، يبدو أن مصر تتماشى معه دون مقاومة، ما يؤثر على مصداقيتها كصوت عربي مستقل.

 

وختاما فإن رفض تلقي مصر تظاهرة سلمية أمام السفارة الإسرائيلية، متى امتثلت للقانون، يشي بانشغال مصري بفصل بين الدولة والنشطاء، بدلاً من إظهار مصداقية سياسية تمكّن تظاهر الشعب لأجل القضية الفلسطينية.
من يلوم الفلسطينيين داخل 48 عندما يتظاهرون، يجب ألا يناقشهم، بينما من يمنعهم في الداخل المصري يصبح ناقصًا في موقفه السياسي، بل وعاجزًا عن تنظيم خطاب مقاوم داخليًا ومسؤولًا ديمقراطيًا.