في كل عام، تعيش مصر على وقع فاجعة جديدة تتعلق بنتائج الثانوية العامة، ولكن هذا العام جاءت صدمة الطالبة "آمنة بهنساوي" لتعيد للأذهان مأساة "مريم ملاك"، الطالبة الشهيرة بـ "صفر الثانوية العامة"، والتي فجرت قضيتها منذ سنوات أزمة ثقة بين الطلاب وأولياء الأمور من جهة، وبين وزارة التربية والتعليم من جهة أخرى.

آمنة، الطالبة المجتهدة والمتفوقة، حصلت على نسبة 24% فقط، نتيجة بدت غير منطقية لا لها ولا لعائلتها ولا لمعلماتها. هي لم تكن تسعى للمجاملات، بل فقط لحساب دقيق ونتيجة عادلة. لكن الدولة — كالعادة — تجاهلت نداءاتها.

فما الذي حدث؟ ولماذا تتحول التظلمات إلى باب مغلق في وجه الحقيقة؟ ولماذا لا تجد دموع الطلاب آذانًا صاغية؟ وما الذي يُخبئه هذا الإهمال لمستقبل وطن بأكمله؟

 

القصة كما روتها آمنة: بداية الشك والخذلان

في تصريح أثار موجة من الغضب، قالت آمنة بهنساوي: في يوم امتحان الكيمياء، رئيس اللجنة قال لي: أنتِ ماحلتش أسئلة المقال في الامتحانات اللي فاتت! استغربت، وقلت له: مستحيل، أنا جاوبة كلها."

هنا بدأت الشكوك، ولم يكن ما قيل لها مزحة، بل كان مؤشرًا على أن هناك شيئًا خطيرًا قد حدث في أوراقها، أو ربما في "تصحيحها"، أو في سلسلة التلاعب التي تصيب أوراق آلاف الطلاب سنويًا دون رقيب.

آمنة ليست وحدها، فقد انتشرت شهادات مشابهة لطلبة آخرين حصلوا على نتائج غير منطقية، ولم يُفتح لهم باب العدالة. بل على العكس، واجهوا جدارًا من الصمت والتجاهل والمماطلة.

 

التظلمات... باب لا يُفتح إلا نادرًا

رغم إعلان وزارة التربية والتعليم عن فتح باب التظلمات، فإن واقع التعامل مع هذه الطلبات مخيب للآمال:

لا يُسمح للطالب برؤية نسخة ورقة الإجابة الأصلية، بل نسخة "مصورة" غير واضحة.
لا يمكنه معرفة من قام بالتصحيح أو التأكد من تطابق الخط.
لا يُفصح عن معايير التصحيح، ويتم الرد عادة بعبارات عامة مثل "التصحيح سليم".
بل الأسوأ من ذلك، أن الطالبة آمنة، وغيرها، لا يتلقون ردًا حاسمًا أو حقيقيًا، وإنما يتم التعامل معهم كمن يشككون في "نزاهة النظام" وهي تهمة تكاد تكون ممنوعة في مصر.

 

صفر مريم: حين تتكرر المأساة دون اعتبار للدروس

في عام 2015، فجّرت قضية "مريم ملاك"، الحاصلة على صفر في جميع المواد رغم تفوقها في السنوات السابقة، عاصفة من الغضب الشعبي. وكشفت القضية عن:

احتمال تبديل أوراق إجابة.
ثغرات كارثية في المنظومة الورقية.
غياب الشفافية في التحقيقات.
لكن بدلاً من أن تكون تلك القضية بداية لإصلاح جذري، تم غلق الملف بهدوء و"تبرئة الجميع". واليوم، بعد مرور سنوات، تعود نفس الكارثة بأسماء جديدة ونتائج أكثر قسوة.

 

النتائج ليست أرقامًا... بل مصائر تُدمر

حين تظهر نتيجة مثل 24% لطالبة متفوقة، فإن الأمر لا يتعلق فقط بـ"رسوب أو نجاح"، بل يتعلق بـ:

انهيار أحلام عائلة كاملة.
اضطراب نفسي وجسدي يصيب الطالب الذي يشعر بالظلم.
فقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها التعليمية.
في حالة آمنة، لا أحد سأل عن حالتها النفسية، ولا عن شعورها بعد الصدمة، ولا عن مدى الأذى الذي قد يلازمها لسنوات.

 

ثغرات خطيرة في النظام التعليمي

تصحيح إلكتروني بلا شفافية
في محاولة للحد من التلاعب، انتقلت الوزارة إلى التصحيح الإلكتروني، لكن هذا النظام بدوره مغلق على الطلاب، ولا يتيح لهم حتى معرفة كيف تم تقييم إجاباتهم.
مركزية غير مفهومة
يتم نقل أوراق الامتحانات من جميع المحافظات إلى مراكز رئيسية، ما يفتح الباب أمام الضياع أو التبديل أو حتى التلف.
غياب المساءلة
لم نسمع عن محاسبة أي موظف في منظومة التصحيح رغم آلاف الشكاوى كل عام.

 

ما تطلبه آمنة ليس معجزة... بل حق دستوري

تطلب آمنة فقط: مراجعة ورقتها، أمام لجنة شفافة، تتأكد من أن الخط الذي بها هو خطها، وأن الإجابات قُيمت بعدالة.
هذا ليس "تشكيكًا في الدولة" كما تحب أن تصفها السلطات، بل حق قانوني ودستوري لكل طالب.

لكن يبدو أن النظام يفضل السكوت وقمع الشكاوى على أن يُظهر خطأ في المنظومة التي يدعي دائمًا أنها "محكمة" و"عادلة".

 

القنبلة الموقوتة: تفشي انعدام الثقة

حين يشعر جيل كامل أن مستقبله يُقرر بالخطأ أو التزوير أو الإهمال، فإن النتيجة ليست فقط غضبًا فرديًا، بل:

تمردًا ضد التعليم الرسمي.
انتشارًا أكبر للدروس الخصوصية كوسيلة للهروب من العبث.
توجهًا نحو الهجرة أو فقدان الانتماء الوطني.
ومن ثم فإن القضية تتجاوز آمنة ومريم ومئات الطلبة، لتصبح مسألة أمن قومي وتعليمي.

 

ماذا تقول الوزارة؟

كالعادة، تكتفي وزارة التربية والتعليم بـ:

الحديث عن "منظومة حديثة لا يمكن اختراقها".
الإشارة إلى أن التظلمات "مفتوحة للجميع".
لوم الطالب على "عدم المذاكرة"، في تجاهل تام للسياق الكامل لكل حالة.
لكن المتابعين يرون أن هذا الخطاب معادٍ للطلاب، ويهدف فقط لـ"غلق الملف" بأقل قدر من الأضرار الإعلامية.

 

مطالب عادلة... قبل أن ينفجر الغضب

فتح تحقيق عاجل في حالة آمنة وغيرها.
السماح بمراجعة ورقة الإجابة الأصلية.
حضور الطالب أو ولي الأمر عملية المطابقة.
محاسبة أي موظف يثبت تسببه في إهدار مستقبل طالب.
إعادة هيكلة نظام التصحيح ليكون شفافًا وعادلًا.
وفي النهاية فإن صوت آمنة هو صوت جيل، فآمنة لم تطلب مجاملة، ولم تنادِ بخفض درجات أو تزوير، بل فقط طالبت بـ"الحق". والحق لا يُمنح بقرارات بيروقراطية أو منشورات دعائية، بل يُنتزع بقوة العدالة واحترام الإنسان.

وفي كل مرة تُهمل فيها الدولة شكوى طالب، فإنها تسهم في بناء جدار من الغضب واليأس قد يسقط عليها يومًا.
ولعل صوت آمنة، إذا سُمع، يكون بداية لتغيير حقيقي، لا مجرد تكرار لصفر مريم في طبعات جديدة.