في مشهد يعكس جوهر ما آلت إليه الأوضاع الحقوقية في مصر، انفجر وسم #شباب_المعصرة_فين على منصات التواصل الاجتماعي، ليسأل بكل صراحة: أين اختفى شباب منطقة المعصرة؟
منذ اختفائهم في ظروف غامضة، وحتى كتابة هذا التقرير، لا توجد أي بيانات رسمية، أو دلائل قانونية، أو حتى تصريحات إعلامية تبرر القبض عليهم أو تكشف مصيرهم.
الصمت الرسمي، والتجاهل الإعلامي، والقلق الشعبي، كلها عناصر تكرّس معادلة الرعب التي باتت تحكم علاقة المواطن المصري بجهاز الدولة، خاصة حين يتعلق الأمر بالشباب.
الاختفاء القسري: البداية المتكررة
تعود جذور الأزمة إلى أواخر يوليو 2025، حين بدأت أسر من منطقة المعصرة بحلوان الإبلاغ عن اختفاء أبنائهم بشكل مفاجئ.
لا أوامر ضبط وإحضار، لا تحقيقات، لا استدعاءات قانونية، فقط اختفاء من الشوارع أو من داخل المنازل، بطريقة تتسق تمامًا مع ما يُعرف بـ"الاختفاء القسري"، وهي جريمة ترتكبها أجهزة الأمن المصرية بشكل منهجي منذ انقلاب 2013.
ورغم أن هذه الممارسات أصبحت معتادة في مصر، إلا أن ما أثار الذعر هذه المرة هو العدد المتزايد للمختفين دفعة واحدة من منطقة واحدة، وجميعهم من الشباب صغار السن، بعضهم طلاب، وآخرون عمال أو موظفون لا علاقة لهم بأي نشاط سياسي معلن.
تفاعل شعبي: وسم يفضح قمع الدولة
سرعان ما تحول الغضب إلى فعل رقمي. انطلق وسم #شباب_المعصرة_فين ليتصدر التريند في مصر، ويبدأ بنشر أسماء، وصور، وتواريخ اختفاء، ونداءات استغاثة من الأمهات والآباء.
فكتب حزب تكنو قراط مصر " اوعاك تنساهم... #شباب_المعصرة_فين الشابين دول عملوا حالة و قدموا نموذج بطولى من الدرجة الأولى مر ٩ أيام على اختفاء هؤلاء الشباب لا أحد يعلم مصيرهم هل هم احياء ، مصابين ، فى اى مكان ؟ خاصة أن الداخلية المصرية تنفى الواقعة من الاساس #غزه_تموت_جوعاً #غزة_الفاضحة".
https://x.com/egy_technocrats/status/1951747829321633940
وأضاف حسن "#شباب_المعصرة_فين الجمهورية الجديدة وانجازات العرص مصر الامن والامان فى عهد القزم قاتل المصريين خائن العهد والقسم سئ الذكر المتعاص الجعر عبد الفتاح السيسى".
https://x.com/HassanGhazir/status/1951887940247773552
وكتب أحد النشطاء:مش عارفين نعيش ولا نحلم ولا حتى نختفي بكرامة. شباب المعصرة اختفوا في دولة بتخاف من الكلمة، من الحلم، من النَفَس".
وتحول الوسم إلى مرآة لواقع مؤلم، وبدأ كثيرون بمقارنة ما يحدث اليوم بحملات الاعتقال الموسعة التي سبقت مظاهرات سبتمبر 2019، حين اختفى مئات الشبان بنفس الطريقة.
السياق السياسي: لماذا يخشى النظام شباب الأحياء الشعبية؟
قد يتساءل البعض: لماذا شباب المعصرة؟ ولماذا الآن؟
1. تاريخ المعصرة في الحراك الشعبي
المعصرة ليست مجرد حي عشوائي في جنوب القاهرة. هي منطقة ذات تركيبة اجتماعية ضاغطة، ووعي شعبي متراكم، وقد شارك أبناؤها في مظاهرات 25 يناير، وموجات الغضب ضد الانقلاب، وكذلك في تحركات سبتمبر 2019 و2020.
لذلك، فإن أجهزة الأمن ـ التي تتعامل مع الشعب بعدسة الشك والخوف ـ تخشى الأحياء الفقيرة المنظمة، التي تعرف معنى التكتل، والعصبية الاجتماعية، والتضامن المحلي.
2. استباق أي تحرك جماهيري
الوضع الاقتصادي في مصر ينهار:
الأسعار ترتفع يوميًا
الجنيه يفقد قيمته
البطالة في أعلى مستوياتها
الطبقة المتوسطة تتبخر
هذه المؤشرات تُقلق النظام، لذا يلجأ إلى الضربات الاستباقية لأي احتمال لموجة احتجاج، خاصة من فئات عمرية تمثل الوقود الطبيعي لأي انتفاضة.
جرائم متكررة: من شباب المعصرة إلى كل أحياء مصر
اختفاء شباب المعصرة ليس استثناءً، بل تكرار لنمط ممنهج من القمع الأمني. إليك بعض النماذج المماثلة:
- أبريل 2022:
اختفاء 8 طلاب من حي فيصل في الجيزة، تبيّن لاحقًا أنهم محتجزون في مقار الأمن الوطني بدون محضر رسمي.
- نوفمبر 2021:
حملة مداهمات واسعة في عين شمس والمطرية، واختفاء 12 شابًا لأكثر من شهر، ظهر بعضهم لاحقًا في قضايا "انضمام لجماعة محظورة" دون أي أدلة.
- يناير 2016 – مجدي مكين:
شاب قبطي من حي الأميرية قُتل تحت التعذيب في قسم شرطة الأميرية. القصة تكررت لاحقًا مع مئات المعتقلين.
- 2015 حتى الآن:
المنظمات الحقوقية تؤكد أن أكثر من 2700 حالة اختفاء قسري وقعت في مصر، بينهم مئات القُصَّر.
صمت رسمي و"هيئة انتخابات" تنام على دماء الناس
في الوقت الذي يختفي فيه شباب مصر، وتهتز أمهاتهم من الخوف، يستمر الإعلام الرسمي في تزييف الواقع، وتستمر "الهيئة الوطنية للانتخابات" في الحديث عن "نزاهة التصويت"، بينما البلاد تخلو من الحرية والكرامة.
لا مجلس نواب يطرح الأسئلة
لا لجنة حقوق إنسان تستدعي مسؤولين
لا نيابة عامة تفتح تحقيقًا جادًا
بل سلطة عسكرية تُدير البلد بعقلية السجون والبيادات.
ردود فعل منظمات حقوق الإنسان
رغم التضييق، أصدرت عدة جهات حقوقية بيانات عن الواقعة:
المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية طالب بكشف مصير شباب المعصرة فورًا، وإطلاق سراحهم أو عرضهم على النيابة.
الشبكة العربية لحقوق الإنسان حذّرت من تصاعد وتيرة الاختفاء القسري باعتباره جريمة لا تسقط بالتقادم.
منظمة العفو الدولية (أمنيستي) عبّرت عن قلقها من تكرار سيناريوهات الاعتقال السري بحق الشباب في مصر.
السيسي ونظامه.. الخوف من الشباب لا من الإرهاب
في ظل نظام يحكم بالحديد والنار، أصبح الشباب — وليس الإرهاب — هو العدو الأول للدولة.
كل من يفكر، يكتب، يتنفس بحرية، أو يعارض بأي شكل، هو تهديد وجودي لسلطة اعتادت ألا ترى سوى "الطاعة الكاملة".
ما جرى لشباب المعصرة ليس صدفة، بل جزء من سياسة ممنهجة لصناعة الخوف، وتصفية المستقبل قبل أن يولد.
المعصرة رمز مصر كلها
#شباب_المعصرة_فين ليس مجرد سؤال من أهل حي واحد، بل هو صرخة وطن بأكمله يسأل:
أين أبناؤنا؟ أين حريتنا؟ أين دولتنا؟
إن ما يحدث الآن هو تدمير بطيء لأي أمل في الإصلاح أو العدالة أو التداول السلمي للسلطة.
فحين تُسجن الكلمة، ويُغيّب الإنسان، وتُسحق الأحلام، يصبح السؤال واجبًا على كل مصري حر: إلى متى السكوت؟