نشر الإعلامي الدكتور أحمد عطوان صورة وعلق عليها  "الصورة دي بتحكي الجريمة المؤسفة: بتحكي حكاية بلد كانت منارة العلم والفن والذوق، وبقت ساحة مفتوحة للرداءة والتفاهة والمكاسب السريعة بأي تمن..."
https://x.com/ahmedatwan66/status/1951498437838463373

بهذه الكلمات اختصر الإعلامي المصري الدكتور أحمد عطوان مأساة الوطن الذي تحوّل خلال سنوات قليلة من إحدى أهم منارات الثقافة والعلم والفن في العالم العربي، إلى منصة عملاقة للابتذال، يُديرها ويستثمر فيها نظام سياسي لا يؤمن بالعلم، ولا يعبأ بالقيم، ويكافئ الجهل ما دام صامتًا عن الاستبداد.

ففي الوقت الذي سُجن فيه المفكرون، وحُوصرت الصحافة، وضُيّق على التعليم، برزت "نخبة" جديدة لا تملك إلا خفّة في الحديث، وجرأة على الحياء، وسطوة على "الترند"، تشكّل الآن وجه مصر الرسمي في عهد السيسي، بعد أن طُمست ملامحها الحقيقية تحت ركام الرداءة.

وفي وتلخص هذه الصورة الموجعة، تحوّلًا عميقًا وصادمًا في الواقع المصري منذ انقلاب 2013، حين انتقل المجتمع من الريادة الثقافية والفكرية، إلى سوق مفتوح للجهل والتفاهة والابتذال، محكوم بمنطق "الترند" و"اللايكات"، ومُدار بواسطة نظام يحاصر العقول ويكافئ الانحطاط.

في زمن كانت فيه مصر تطبع الكتب قبل أوروبا، وتُصدّر الفنون والعلوم للعالم العربي، وتخرّج العقول النادرة مثل طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، أصبحت اليوم، وفق وصف التغريدة، بلد "وحش الكون، وكروان مشاكل، ومودة وهدير وموكا"، وأسماء نجومية جديدة صنعتها تطبيقات تافهة ومحتوى هابط، في ظل بيئة مغلقة تُعاقب كل عقلٍ حر، وتفتح الطريق واسعًا أمام التافهين وأرباحهم السريعة.


منارة الماضي.. مصر التي كانت

قبل الحديث عن الواقع الرديء، من الضروري أن نتذكر مصر التي كانت:

  • كانت مكتبات القاهرة تتفوق على نظيراتها في أوروبا.
  • كانت الجامعة المصرية قبلة لطلاب العالم العربي والأفارقة.
  • خرج من الأزهر علماء في الشريعة والفكر والأدب.
  • قاد فنانوها نهضة عربية في الموسيقى والدراما والسينما.
  • كانت الصحافة المصرية مرجعية، والمسرح منصة حوار فكري.
  • لم يكن التقدم مجرد مظاهر، بل حالة نهوض حقيقي شملت العقل والتعليم والذوق العام.


كيف بدأ السقوط؟

بدأ الانحدار مع انقلاب 2013، حين أطاح السيسي بمسار ديمقراطي وليد، لكنه لم يكتفِ بإسقاط السياسة، بل أطلق حربًا منظمة على الوعي:

  • إغلاق الفضاء العام: الصحف توقفت، البرامج الحوارية اختفت، وتحوّلت الشاشات إلى أبواق مدجنة.
  • مطاردة المفكرين: تم تشويه، نفي أو اعتقال كل من تحدّث خارج السرب (مثل علاء عبد الفتاح، حازم عبد العظيم، حسن نافعة، وغيرهم).
  •  التحكم بالتعليم: لم يتم تطوير المناهج، بل أُفرغت من مضمونها النقدي، وتحولت المدارس إلى مراكز تلقين.
  • تشجيع الإعلام التجاري: بدلاً من دعم الوعي، تم تمويل القنوات التي تنشر الفن الرديء والمحتوى المستهلك.


صعود التفاهة.. ترند بلا عقل

في ظل غياب الحريات والفقر المتزايد، أصبح الشباب يبحث عن "النجاة بأي طريقة". فظهر نموذج جديد للمجتمع:

  • مراهقة ترقص على تيك توك تطلب "هدايا" بآلاف الجنيهات في البث المباشر.
  • شاب يعوي في لايف يتحدث عن علاقاته ويبيع سذاجته لمتابعين بالملايين.
  • أسماء بلا إنجاز تتصدر "الترند" لأسباب فارغة: شكل، صرخة، حركة جسدية.
  • برامج كاملة تُبنى على فضائح ومشاحنات بلا أي مضمون ثقافي أو سياسي.

هذا ليس انحدارًا عشوائيًا، بل نتيجة بيئة أغلقت الأبواب على المفكر، وفتحت الأبواب كلها أمام التافه.

 

الإعلام أداة للسطحية

لم يعد الإعلام المصري وسيلة لصناعة الرأي أو كشف الحقائق. بل أصبح أداة في يد السلطة:

  • يعيد تدوير التافهين كنماذج "واقعية".
  • يغض الطرف عن انحرافات الفنانين والمشاهير إن كانوا موالين.
  • يتجاهل قضايا حقيقية مثل الفقر، البطالة، القمع.
  • يتحول إلى "كومبارس" في لعبة سياسية أكبر هدفها صرف الانتباه عن الفشل الاقتصادي والاجتماعي.

والنتيجة؟ المتسول الإلكتروني أصبح أهم من العالِم، والبنت التي ترقص أشهر من الروائي.

 

التافهون لا يُحاسبون.. بل يُكافؤون

القضاء الذي يُحاكم ناشطًا سياسيًا بـ15 سنة، يُصدر أحكامًا مخففة أو يبرّئ مشاهير التيك توك والفنانين، ولو ضُبطوا بمخدرات أو تهرّب ضريبي.

أمثلة:

  • منة شلبي: ضبطت بمخدرات في المطار، وانتهى الأمر بغرامة فقط.
  • مودة الأدهم وحنين حسام: حُكم عليهن بالسجن في البداية، لكن تم تخفيف العقوبات لاحقًا، وخرجت إحداهن في برنامج تلفزيوني تتحدث عن "الندم" وكأن شيئًا لم يكن.
  • اليوتيوبر "أم مكة": تصدرت وسائل الإعلام رغم محتوى سوقي وابتذال واضح.
  • برامج مثل "الوش التاني" و"قعدة صراحة" تمجّد التفاهة وتنقل محتوى لا يمت للتعليم أو الثقافة بأي صلة.

 

اقتصاد التفاهة وغسيل الأموال

في ظل فشل اقتصادي حاد، وتآكل للطبقة الوسطى، برز نوع جديد من الاقتصاد الرمادي:

  • "هدايا" تيك توك بمبالغ تصل إلى مليون جنيه في بث واحد.
  • شركات إنتاج وهمية تروّج محتوى بلا معنى، كممر آمن لغسيل الأموال.
  • نموذج "اكسب من الفيديوهات" أصبح بديلاً عن أي عمل حقيقي.

هذه ليست فقط نتيجة فقر، بل تكتيك من النظام لغض النظر عن الفشل عبر خلق اقتصاد "وهمي"، قائم على دغدغة الغرائز والهروب من الواقع.

 

من المسؤول؟ ليس فقط التيك توك

من الخطأ أن نحصر المشكلة في "جيل بلا وعي" أو "محتوى سطحي". فالحقيقة أكبر:

  • نظام حاكم قتل الطموح.
  • نظام قمع الحريات ومنع الإبداع الحقيقي.
  • نظام تعمّد إقصاء المفكرين، والاحتفاء بالسطحيين.
  • نظام أغلق الجامعات الحقيقية، وفتح مسارح الراقصين والمهرجين.

وبالتالي فإن التافه ليس الجاني الوحيد، بل هو ضحية لنظام هندس بيئة كاملة ليكون هو النموذج السائد.

 

ماذا بقي؟ صوت الأمل والمقاومة

رغم هذا السواد، لا تزال هناك أصوات مثقفة تكتب، تقرأ، تعلّم، تناضل:

  • شباب يكتبون على فيسبوك وتويتر ضد الرداءة.
  • فتيات يطلقن مبادرات للقراءة والتعليم الذاتي.
  • قنوات ثقافية مستقلة تنمو بهدوء، خارج هيمنة الدولة.
  • أكاديميون في المنافي يحاولون إعادة إحياء الفكر الحر.

هم البذور الأخيرة التي تُذكّرنا أن مصر كانت، ويمكن أن تعود.

وفي النهاية فإن مصر ليست هكذا.. ولا يجب أن تبقى كذلك فهي صدّر حسن البنا وسيد قطب وطه حسين ونجيب محفوظ وأم كلثوم وسيد درويش، إلى بلدٍ تُسيطر عليه "مودة الأدهم وكروان مشاكل وأم مكة" — ذلك ليس تطورًا طبيعيًا، بل نتيجة مشروع استبدادي سحق كل من يحمل فكرة.

فمصر متستحقش تكون كده. مصر هترجع تاني لما نحط العلم قبل الترند، والأدب قبل تفاهة التيك توك، والأخلاق قبل اللايكات، والحرية قبل المشاهدات، والوطن قبل الحاكم."

إن المعركة اليوم ليست فقط سياسية، بل معركة على العقل والذوق والوعي. فإما أن ننتصر فيها، أو نستسلم للرداءة إلى الأبد.