في مشهد بات مألوفًا في جميع محافظات الجمهورية، تنتشر الكلاب الضالة بأعداد غير مسبوقة، تهيم في الشوارع والأزقة، وتخترق صمت الليل بنباحها، بينما تتعالى صيحات التحذير من مخاطر صحية متزايدة، ليس فقط نتيجة حالات "العقر" المتكررة، بل أيضًا بسبب الاتهامات المتزايدة باستخدام لحوم هذه الكلاب في إعداد الوجبات الشعبية الرخيصة التي يقبل عليها الفقراء، وسط غلاء الأسعار وغياب الرقابة الفعالة.
بين سندويتش الحواوشي وخطر اللحوم المجهولة
"45 جنيهاً فقط.. ثمن 3 سندويتشات"، هكذا يروي معوض ربيع، موظف الاستقبال في شركة الكهرباء، تفاصيل وجبته اليومية التي يشتريها من محل شهير في بولاق أبو العلا، أحد أحياء القاهرة الشعبية. لا يشغله كثيرًا مصدر اللحم المستخدم، فالأولوية لديه هي السعر.
يشاركه الرأي سلامة السوهاجي، عامل البناء، الذي يؤكد أنه لا يستطيع التفرقة بين أنواع اللحوم وسط مزيج التوابل والبهارات القوية، قبل أن يضيف مازحًا: "ممكن تكون لحمة كلاب أو حمير.. الله أعلم".
في المقابل، يصرّ البائع الشهير بلقب "أبو عنتر" على براءة مصدر لحومه، لكنه يعترف بانتشار الظاهرة، متهمًا من وصفهم بـ"معدومي الضمير" باصطياد الكلاب الضالة بعد تخديرها، وذبحها وبيعها لمطاعم شعبية تبحث عن الربح السريع، حتى إن بعضهم يتنكر في زي فرق الرفق بالحيوان لتجنب الشبهات.
تحذيرات طبية: "قد تؤدي إلى الوفاة"
المخاوف الصحية ليست محض تكهنات، بل تحذير مباشر أطلقه اختصاصي الصحة الغذائية الدكتور محمد جمال، مؤكداً أن استهلاك لحوم كلاب مجهولة المصدر قد يؤدي إلى تسمم غذائي حاد، قد يصل في بعض الحالات إلى الوفاة، إلى جانب ضعف المناعة ومشاكل معوية خطيرة، خاصة للأطفال.
وفي تصريحات مماثلة، شدد نقيب الفلاحين حسين أبو صدام على أن أي سعر للحوم يقل عن 350 جنيهاً للكيلو"يعني غالباً لحوم فاسدة أو غير صالحة للاستهلاك الآدمي".
"تكاثر مرعب".. الكلاب الضالة خطر آخر يتصاعد
بعيداً عن مخاطر اللحوم المشبوهة، تتفاقم أزمة الكلاب الضالة في الشوارع المصرية، في مشهد يصفه السكان بـ"المرعب". أحد العاملين في فرق مكافحة الكلاب بمدينة السادس من أكتوبر، اكتفى بذكر اسمه الأول "ممدوح"، أكد أن الطلبات تنهال على الجهات المختصة للتخلص من الكلاب "بأي وسيلة".
وفي منطقة العجوزة، أظهرت كاميرات المراقبة مواطناً يضع طعاماً مسموماً للكلاب، مدعياً أنها ألحق أضراراً جسيمة بسياراته، ما دفع وزارة الداخلية للقبض عليه. واقعة مشابهة طالت سيدة في الشرقية رُصدت وهي ترشق الكلاب بالحجارة دفاعاً عن أطفالها.
من جهة أخرى، يتحدث زياد الليثي، صاحب معرض سيارات، عن معاناة شبه يومية بسبب اتخاذ الكلاب من سيارته مأوى ليلاً، في ظل غياب حلول حكومية فعالة.
منصات التواصل توثق الرعب.. وغياب الإحصاءات الدقيقة
عشرات المقاطع المصورة تغزو منصات التواصل الاجتماعي، توثق مطاردات الكلاب للمارّة أو اقتحامها الشوارع الحيوية، فيما يتحدث العديد من المواطنين عن تجارب مرعبة واجهوها، خصوصاً خلال ساعات الليل أو الفجر.
ورغم غياب الإحصاءات الدقيقة، يؤكد محمود حمدي، وكيل نقابة البيطريين، أن أعداد الكلاب الضالة في مصر تتراوح بين 20 و30 مليون كلب، رقم مهول لا يتناسب مع إمكانات الدولة في التعامل معه.
بين الرحمة والحسم: القانون حاضر.. والتطبيق غائب
في ظل الجدل الدائر، تتعالى الأصوات المطالبة بإيجاد حل قانوني وعملي للأزمة. المحامي عاطف عبد المعز أكد أن القانون المصري يُجرّم قتل الحيوانات الأليفة أو إيذاءها عمدًا، مشيرًا إلى المادة 355 من قانون العقوبات، التي تنص على الحبس مع الشغل لمن يرتكب مثل هذه الأفعال.
لكنه شدد على أهمية أن تتحمل الدولة مسؤوليتها في تنظيم حملات تطعيم وعزل وتعقيم للكلاب الضالة، داعياً إلى تفعيل قانون "ترخيص الكلاب" لمنع تداولها بشكل غير منظم.
قانون جديد.. وغرامات صارمة
وفي يناير الماضي، صدر قانون ينظم حيازة الكلاب والحيوانات الخطرة، ويُلزم بترخيص الكلاب، ويفرض غرامات مالية لا تقل عن 10 آلاف جنيه على من يخالف الضوابط، خاصة في الأماكن العامة.
لكن وفقًا للطبيب البيطري هشام الحنفي، فإن تكلفة تعقيم الكلب الواحد تصل إلى نحو 800 جنيه، مما يعقّد جهود التنفيذ على نطاق واسع، في ظل ضيق الموارد.
وأوضح الحنفي أن الكلاب الضالة مسؤولة عن 80% من حالات العقر في مصر، مرجعًا تكاثرها إلى ما تحصل عليه من بقايا طعام في الشوارع ومراكز جمع القمامة، مشددًا على ضرورة اعتماد خطة علمية وإنسانية لمواجهة الظاهرة.
الصحة تتحرك.. ولكن الطريق طويل
وزارة الصحة من جهتها أعلنت عن توفير تطعيم "السعار" مجانًا، ضمن استراتيجية تستهدف القضاء على داء الكلب بحلول عام 2030، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة "فاو"، والمنظمة العالمية لصحة الحيوان.
لكن خبراء يشككون في إمكانية تحقيق هذا الهدف دون حلول جذرية للمشكلة الأكبر، وهي الانتشار غير المسبوق للكلاب الضالة، والتراخي في تنظيم بيع وتداول اللحوم، ما يفتح الباب أمام ممارسات غير شرعية وخطيرة على الصحة العامة.