السلطة العسكرية المرتبطة بدولة الانقلاب، والمتمثلة في جهاز "مستقبل مصر للتنمية المستدامة"، باشرت إدارة بورصة سلعية جديدة بهدف تنظيم وضبط أسواق الاستيراد والتصدير للسلع الاستراتيجية مثل القمح، الأعلاف، الأسمدة، والمبيدات والأدوية البيطرية.
تم الإعلان الرسمي عن خطوات تفعيل هذه البورصة في يوليو 2025 بعد انتقال تبعيتها لجهاز مستقبل مصر مطلع نفس العام.
البورصة السلعية التي تأسست عام 2020 وتوقفت عن العمل فعلياً في 2024، بدأت تستعيد نشاطها بعد هيكلة شاملة شملت استحواذ جهاز مستقبل مصر على الحصص الحكومية الكبرى في البورصة، بما يضمن السيطرة العسكرية والإدارية عليها.
القرار يأتي بعد أشهر قليلة من تقرير صندوق النقد الدولي في يونيو 2024، والذي انتقد فيه صراحة التوسع المستمر للجيش في الاقتصاد، معتبرًا أنه يضر بالشفافية ويخلق بيئة غير تنافسية أمام القطاع الخاص.
جاء في التقرير: "هناك حاجة إلى انسحاب تدريجي للدولة، بما في ذلك الكيانات العسكرية، من القطاعات الاقتصادية غير الاستراتيجية، وتوسيع دور القطاع الخاص".
ورغم هذه التوصيات، فإن الحكومة المصرية، بقيادة عبد الفتاح السيسي، تسير عكس الاتجاه، مُعززة النفوذ العسكري في قطاعات التجارة والزراعة، حتى في تلك التي تمس حياة المواطنين مباشرة.
ويُنتظر أن تمثل هذه البورصة "نافذة موحدة" لكل عمليات تداول وتسجيل عقود استيراد وتصدير السلع، عبر قانون جديد قيد الإعداد يهدف إلى تنظيم عملها بشكل يبسط إجراءات التسجيل ويضمن شفافية الأسعار وينظم العملية السوقية بشكل أكثر فعالية.
أهم السلع التي ستُدار عبر هذه المنصة تشمل القمح -الذي يعد من أهم مستوردات مصر العالمية، كما أعلنت الحكومة أنها تعاقدت على شراء 3.4 مليون طن منه لتأمين الاحتياطي الاستراتيجي- بالإضافة للأعلاف والأسمدة والمبيدات الحشرية، إضافة إلى المنتجات الزراعية والأغذية المصنعة، بهدف ضبط وضمان استمرارية توفرها بأسعار مناسبة.
ومن المعروف أن واردات مصر من القمح انخفضت بنحو 27% في النصف الأول من 2025 مقارنةً بالعام السابق، مع تراجع حصة الحكومة من هذه الواردات بأكثر من 57%.
تجارب سابقة فاشلة.. عندما يدير الجيش الاقتصاد
لم تكن هذه أول مرة يتدخل فيها الجيش بشكل مباشر في إدارة الأسواق، فقد سبق أن تولى عبر جهاز الخدمة الوطنية إدارة شركات للألبان والمياه المعدنية والأسماك، لكن النتائج، وفقًا لتقارير مستقلة، لم تساهم في خفض الأسعار أو ضمان وفرة السلع، بل أدت في أحيان كثيرة إلى خروج القطاع الخاص من المنافسة.
خالد داود، المعارض والقيادي السابق في حزب الدستور، صرح في أحد اللقاءات الإعلامية: "ما يحدث ليس إصلاحًا اقتصاديًا بل عسكرة ممنهجة لكل ما له علاقة بلقمة عيش المواطن. هذا ليس دور الجيش، بل كارثة اقتصادية وسياسية".
رغم هذه الخطوة التنظيمية، تواجه البورصة تحديات حقيقية في فرض حضورها الفعلي بسبب مخاوف الموردين الدوليين من التعامل مع كيان إداري مرتبط عسكرياً ولا يملك موازنة مستقلة معلنة مما يعقد إجراءات التمويل والمفاوضات الخاصة بالاستيراد.
مثلاً، شركة "الظاهرة الزراعية" الإماراتية، والتي كان لها اتفاق مستمر مع وزارة التموين لاستيراد القمح، أعلنت تعليق تعاقدها مؤقتًا بسبب هذا التغير في الجهة المنفذة والتي باتت عسكرية وغير مستقلة ماليًا.
أما بشأن الأداء الفعلي لبورصة السلع، فعلى الرغم من تأسيسها في 2020 وتوسعها بعدد السلع حتى بداية 2024، إلا أن التداول ظل محدودًا لسلعة النخالة فقط بعد توقف تداول السلع الاستراتيجية كالقمح والسكر والذرة لأكثر من عام بسبب مضاربات الأسعار وتحكمات غير نظامية.
ويُنتظر أن تسعى حكومة الانقلاب ضمن جهود إعادة الهيكلة نحو طرح سلع إضافية ضمن البورصة كالبتروكيماويات والذهب، لمحاولة تنشيط التداولات وتحقيق الاستقرار في الأسواق.
التحول الإداري للبورصة لإدارتها من قِبل جهاز عسكري كـ"مستقبل مصر" يعكس رغبة النظام في مزيد من السيطرة على حلقات السوق الاستراتيجي، وهو ما وفق تصريحات رسمية يراد منه "إرساء آلية صلبة لضبط الأسعار والحفاظ على الأمن الغذائي".
لكن المعطيات والأصوات داخل السوق والموردين تشير إلى أن هذه السيطرة الجديدة غير مرحب بها لدى بعض الأطراف ومثقلة بصعوبات تمويلية وإدارية قد تعيق تحقيق الأهداف المعلنة.
باختصار، الجهاز العسكري المرتبط بالدولة يشرف الآن على بورصة جديدة لاستيراد وتصدير السلع الاستراتيجية مثل القمح والأعلاف والأسمدة، عبر هيكلة قانونية وإدارية تهدف لضبط الأسواق وتحقيق الأمن الغذائي، مع تحديات أسعار وتراجع واردات، ومخاوف الموردين، وتوقف تداول بعض السلع الاستراتيجية في البورصة خلال الفترة السابقة، بينما يعمل المسؤولون على تطوير البورصة ومنصتها لتشمل سلعًا إضافية وتوسيع آليات عملها خلال النصف الثاني من 2025.
التجربة المصرية خلال العقد الماضي أثبتت أن عسكرة الاقتصاد لم تجلب لا الاستقرار ولا العدالة الاقتصادية، بل على العكس، ساهمت في تآكل الطبقة الوسطى، وزيادة معدلات الفقر، وتراجع الإنتاج الزراعي والصناعي المحلي.
طالما بقيت أدوات التسعير، التجارة، والتوزيع في يد جهة عسكرية غير خاضعة للرقابة، فلن يعرف السوق المصري لا حرية ولا توازن، ويظل المواطن المصري هو الضحية الأولى لكل قرار اقتصادي قائم على منطق السيطرة، لا الكفاءة.