في مشهد بات مألوفاً للمصريين، أعلنت السلطات المحلية في محافظة أسوان عن ضبط أكثر من 141 حالة إشغال ومخالفة تموينية في حملة مكبرة بعدد من المراكز، وفق ما نشرته وسائل الإعلام الحكومية في منتصف يوليو 2025، وبينما تقدم الحكومة هذا الأمر باعتباره "فرضاً لهيبة الدولة" و "تنظيماً للأسواق"، فالواقع يقول أن هذه الحملات المتكررة تستهدف البسطاء وصغار التجار، وتندرج ضمن سياسة إنهاك المواطن وتحميله مسؤولية أزمات اقتصادية تسبب فيها النظام نفسه.
تصعيد العقوبات
منذ انقلاب 3 يوليو 2013، اتبعت الحكومات المتعاقبة تحت قيادة عبد الفتاح السيسي نهجاً أمنياً واقتصادياً قاسياً، يعتمد على الجباية والغرامات بدلًا من الحلول، فالسياسات المتبعة، سواء في مجال التموين أو تنظيم الأسواق، تركز على العقاب دون معالجة أسباب المخالفات.
وبدلًا من تقديم دعم فني أو مادي لأصحاب الأنشطة الصغيرة الذين يعانون من ارتفاع تكاليف الإنتاج والإيجارات والضرائب، تقوم الأجهزة المحلية بتحرير محاضر إشغال طريق، عدم إعلان عن الأسعار، أو بيع بسعر زائد، وهي مخالفات يكون الهدف منها بالأساس تحصيل الغرامات لا الإصلاح.
أبرز المخالفات..
خلال حملات مكبرة في أسوان، تم تحرير 155 محضر مخالفة في الأسواق، شملت 65 محضرًا لعدم الإعلان عن الأسعار، و48 محضرًا لعدم حمل شهادة صحية، و15 محضرًا لتجار التموين، إضافة إلى 21 محضرًا في مجال البوتاجاز نتيجة البيع بأعلى من الأسعار المقررة، وثلاث محاضر بيع لسلع منتهية الصلاحية.
أما في ملف المخابز فقد بلغ عدد المخالفات 224 تضمنت «توقف عن العمل»، و«نقص وزن»، و«مخالفة المواصفات»، و«عدم الإعلان عن قائمة الأسعار».
هذه الأرقام تعكس حملة غير مسبوقة لتشديد القبضة على الأسواق، لكن الملاحظ هو تركزها غالباً على مخالفات إجرائية، تُلزم بها الحكومة أصحاب المحال والمخابز في ظل ظروف اقتصادية وطنية معقدة وارتفاعات متتالية للأسعار، وهو وجه من أوجه تحميل المسؤولية للمواطنين عن أزمات هيكلية عجزت الدولة عن علاجها.
الحملة الأخيرة التي تمت في مركز إدفو ومدينة كوم أمبو شملت مخالفات متنوعة، منها:
- 60 محضر إشغال طريق، معظمها لبسطاء يبيعون الخضروات والسلع الأساسية.
- 35 محضر تمويني بسبب "عدم إعلان الأسعار"، وهي مخالفة يعجز كثير من الباعة عن الالتزام بها بسبب تغير الأسعار يوميًا.
- 20 مخالفة بيع بسعر زائد، رغم أن الغلاء ناتج عن سياسات حكومية أبرزها تحرير سعر الصرف ورفع الدعم.
- حالات عدم وجود فواتير، وهو أمر شائع في السوق المصرية نتيجة عدم انتظام سلاسل التوريد وليس نية التهرب.
الواقع الاقتصادي يفاقم الأزمة
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن معدل التضخم السنوي في يونيو 2025 بلغ 38.7 %، بينما ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسب تتراوح بين 50 % إلى 90% خلال العام الأخير، في ظل هذه الأرقام، يصبح من الصعب على أي بائع صغير أن يواكب التسعيرات أو يتحكم في السعر النهائي.
وبدلًا من معالجة هذه الأسباب، تلجأ الحكومة إلى توظيف المحليات والأجهزة الرقابية كأداة جباية، حيث تصل قيمة الغرامات المفروضة في بعض المناطق إلى 5000 جنيه للمخالفة الواحدة، وهو مبلغ قد يمثل دخل شهرين لأسرة متوسطة.
شهادات الأهالي
يقول "سعيد"، أحد الباعة المتجولين في مدينة أسوان: "ماحدش بيساعدنا، كل يوم ييجوا يشيلوا البضاعة وياخدوا العدة.. طيب نأكل منين؟ لو الدولة مش قادرة توفر لنا شغل، على الأقل تسيبنا ناكل عيش".
وتقول "أم هاني"، صاحبة محل بقالة في منطقة دراو: "الأسعار بتتغير كل يوم.. نعلن الأسعار إزاي؟ النهاردة بشتري الزيت بـ60 جنيه، بكرة يبقى بـ65.. أبيع بخسارة يعني؟".
تصريحات رسمية مستفزة
في تصريح مثير للجدل، قال وزير التنمية المحلية هشام آمنة في مايو الماضي إن: "الحملات ضد المخالفات هدفها تحسين البيئة الحضرية، ولن نتسامح مع من يعتدون على القانون".
لكن مراقبين يرون أن هذه التصريحات تفتقر للبعد الاجتماعي، وتُظهر قطيعة بين الحكومة والشارع، بل إن نقابة البقالين نفسها حذّرت في بيان لها في أبريل 2025 من أن الغرامات المفرطة "تهدد بإغلاق آلاف المحال"، وطالبت بإجراءات داعمة بدلًا من القمع.
لماذا تستهدف الدولة الضعفاء؟
يرى خبراء اقتصاد، مثل الدكتور أسامة عبد الخالق، أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة، أن الحكومة المصرية تعاني من عجز مالي مزمن يدفعها لتعويض الفجوة بالرسوم والغرامات، وقال في ندوة اقتصادية مطلع يونيو: "الدولة عاجزة عن تحصيل الضرائب من الكبار، فتحمّل صغار التجار والمواطنين أعباء الأزمة.. وهذا نهج غير عادل".
وقد أكد تقرير صندوق النقد الدولي في مراجعة أبريل 2025 أن "الاقتصاد المصري يعاني من اختلالات هيكلية"، لكنه أشار بوضوح إلى "ضعف العدالة الضريبية وانخفاض فاعلية الرقابة على كبار الممولين".
البدائل الغائبة..
في دول تحترم مواطنيها، يتم توفير أدوات مساعدة قبل تطبيق العقوبات، لكن يبدو أن الحكومة الحالية لا ترى في المواطن شريكًا، بل فقط مصدرًا إضافيًا للجباية، كان من الممكن مثلًا:
- تقديم دورات مجانية لصغار الباعة حول التسعير وتنظيم النشاط.
- إنشاء أسواق منظمة شعبية برسوم رمزية، بدلًا من طرد الباعة من الشوارع.
- دعم أسعار الجملة أو تقنين النشاط للعاملين خارج الاقتصاد الرسمي.
إن ما حدث في أسوان ليس حادثًا منعزلًا، بل جزء من نهج سلطوي ممتد منذ أكثر من عقد، غياب العدالة الاجتماعية، وتغليب الحلول الأمنية على الإصلاحات الحقيقية، جعل المواطن المصري يدفع ثمن سياسات لا يد له فيها.
من المهم التوقف عند حقيقة أن أكثر الفئات تضرراً من هذه الإجراءات هم صغار التجار وأصحاب الأكشاك والعاملين في الأسواق الشعبية، هؤلاء يواجهون شبح الغرامات والإغلاقات، في الوقت الذي لم توفر فيه الحكومة أية حلول جذرية للأزمات المتوالية مثل انفلات الأسعار، ونقص بعض السلع التموينية الرئيسية، وزيادات أسعار الدقيق والزيت والسكر في يونيو 2025 بنسبة وصلت إلى 25% للسكر و20% للزيت مقارنة بالعام السابق