في ظل تكرار حوادث القطارات الأليمة في مصر التي خلفت عشرات القتلى والجرحى على مدى السنوات الماضية، أصبح الحديث عن آليات تحسين السلامة على السكك الحديدية ضرورة ملحة، ومن بين أبرز التطورات التقنية التي يتم التركيز عليها في خطة تحديث هذا المرفق الحيوي هو نظام "الصندوق الأسود" المعروف باسم (ATC) أو التحكم الآلي في القطارات، لكنه يطرح هذا النظام العديد من التساؤلات حول جدواه الفعلية، وإمكانية تطبيقه في ظل البيئة السياسية والاقتصادية غير المستقرة، وتأثير هذه الجوانب على تحسن الأوضاع الحقيقية.
تفاصيل "الصندوق الأسود" (ATC) وأهميته في تحديث السكك الحديدية
نظام التحكم الآلي (ATC) يشبه "الصندوق الأسود" في الطائرات كونه جهازاً إلكترونياً مثبتاً في جرارات القطارات وإشارات السكك الحديدية، مهمته التحكم الآلي في سرعة القطار ومساره.
يتكون النظام من جهاز إرسال في جرار القطار وآخر استقبال عند الإشارات "السيمافورات" على طول الخط، ويرسل 4 إشارات رئيسية: الخضراء (الطريق مفتوح)، الخضراء المتقطعة (ضرورة التقليل من السرعة من 120 إلى 60 كم/س)، الصفراء (التحذير من ضرورة التهدئة)، والحمراء (توقف فوري بسبب خطر محدق).
نظام ATC يحذر السائق تلقائياً عند وجود عوائق أو قطارات أخرى، ويساعد في تقليل الاعتماد على العنصر البشري الذي يعتبر الأكثر تعرضاً للخطأ في العمليات التشغيلية.
هل يوقف أو يقلل من حوادث القطارات؟ فما فائدته ومن المستفيد منه؟
رغم أن النظام يحتمل أن يكون نقلة نوعية في مجال السلامة، إلا أن الواقع العملي في مصر يكشف عن تحديات كبيرة تعيق فعاليته، فقد كشفت محاكاة حديثة أن هذا النظام يمكنه بالفعل تقليل الحوادث بشكل ملحوظ من خلال تنبيه السائق وتدخل قطع التروس آلياً إذا لزم الأمر، لكن المصدر ذاته يشير إلى أن أنظمة التحكم لدى السكك الحديدية المصرية "لم يتم تطويرها أو استبدالها منذ عقود" وأنها تعاني من التهالك والتعطّل، بما لا يسمح بالتشغيل الأمثل لـ ATC.
أيضاً، يشير خبراء إلى أن تشغيل نظام ATC في الواقع سيُحدث تأخيرات في مواعيد القطارات قد تصل إلى 25 دقيقة، وهو أمر قد يثير ردود فعل سلبية بين المسافرين والعاملين بالنقل في ظل الضغوط على حركة القطارات اليومية وطول خطوط السكة الحديد التي تزيد على 10 آلاف كيلومتر وتم رصد 225 مليار جنيه لتطويرها منذ سنوات عدة، مع تأخيرات في التنفيذ.
علاوة على ذلك، يشير مراقبون إلى أن تفعيل نظام ATC لا يستفاد منه بالكامل إلا إذا تزامن مع تطوير شاملة تتضمن تحديث العربات، النظافة، وإصلاح المزلقانات، إضافة إلى تحسين قدرات السائقين والفنيين، فمن المستفيد إذاً؟ هل النظام يخدم المواطنين فعلياً بتحقيق السلامة أو هو مجرد مشروع بروبوغاندا إعلامية للتغطية على فشل السياسات العامة في النقل؟
الواقع السياسي وتأثيره على نجاح مشروع ATC
لا يمكن تجاهل أن مشروع ATC وغيره من مشاريع تحديث السكك الحديدية يأتي في سياق سياسي مضطرب يزيد من العوائق.
وتُظهر التقارير الرسمية أن أكثر من 1.1 مليون راكب يستخدمون السكك الحديدية يوميًا، معظمهم من محدودي الدخل، في حين يخصص النظام استثمارات ضخمة في قطارات لا يستقلها إلا الأغنياء مثل "المونوريل" و"القطار الكهربائي السريع".
مرارا وتكراراً، شهدت مصر حوادث قطارات مروعة خلال حكم السيسي، والتي كان آخرها حادث قطار المنيا في سبتمبر 2022 الذي أودى بحياة 41 مواطناً على الأقل، إضافة إلى مئات الإصابات، وذلك بالرغم من الوعود الكثيرة بتحسين نظم السلامة.
في نهاية المطاف، فإن المواطن المصري البسيط، الذي يستخدم القطار يوميًا للذهاب إلى عمله أو جامعته، يظل الضحية الأولى لسياسات النظام.
ورغم إدخال "الصناديق الذكية"، فإن القطار ذاته لا يزال يتحرك على قضبان متهالكة منذ الستينيات، في ظل أعطال متكررة، وتكدس خانق، وانعدام الأمان.
في ظل هذا السياق، تواجه وزارة النقل ضغوطاً هائلة بين الحفاظ على سير القطارات بشكل شبه يومي رغم المخاطر، أو إيقاف العمل لفترات طويلة لإجراء تحديثات شاملة قد تسبب أزمة في التنقل، كما أن الأزمة تمتد خارج المواصلات، فالانتهاكات الحقوقية والتصعيد الأمني، خصوصاً في مناطق مثل سيناء، تؤكد أن القطاع العام يعاني من اختناقات متعددة على مختلف الأصعدة، مما يعكس صورة حكومية غير قادرة على ضمان أقل درجات السلامة والأمن حتى في قطاع أساسيات الحياة.
وفي تصريحات لوزير النقل بحكومة الانقلاب كامل الوزير، يرى أن تطوير القطارات ضروري لكن العملية ستطول وربما تؤدي إلى تأخيرات وتغييرات في جداول زمنية لمحطات القطارات، ما يعني تحميل المواطن أعباء إضافية مقابل إدارة تقع فوق قدرات الدولة الراهنة.
هل يقود الـATC إلى مستقبل أفضل؟
في النهاية، يبقى نظام ATC واحداً من الإجراءات التقنية الأكثر تطوراً التي يمكن أن تسهم في تقليل حوادث القطارات، إلا أن التطبيق الناجح لهذا النظام يحتاج إلى بيئة مستقرة سياسياً واقتصادياً، شفافية في اتخاذ القرار، وتضافر جهود الدولة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.
غياب هذه العناصر يحول "الصندوق الأسود" من أداة إنقاذ إلى مجرد تعويذة إعلامية للحفاظ على ما تبقى من ثقة في قطاع اختبرته الحوادث المتكررة وسوء الإدارة.