تُشكّل المنافسة بين الولايات المتحدة والصين السمة الأبرز للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين. ومع تآكل الهيمنة الأمريكية بعد ثلاثة عقود من التفرد العالمي، يُعلن الصعود المتنامي للصين كقوة اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية ناعمة عن تحول جذري في النظام العالمي، كما يرى موقع ميدل إيست آي.
في المقابل، تواصل الولايات المتحدة تورطها في صراعات إقليمية، خصوصاً في الشرق الأوسط، لم تعد تُحقق لها مكاسب استراتيجية، بل تعزز الانطباع العالمي بانحدار مكانتها. ويظهر ذلك جلياً في دعمها الثابت لإسرائيل، خاصة بعد هجوم 7 أكتوبر، الذي أعاد تشكيل التصورات العالمية حول شرعية كل من القوة الأمريكية والمشروع الصهيوني.
منذ نهاية الحرب الباردة، اعتمدت الصين سياسة "الصبر الاستراتيجي"، مرتكزة على النمو الاقتصادي، تحديث الجيش، والانخراط في المنظمات متعددة الأطراف. ومبادرة "الحزام والطريق" تُعد حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية، حيث تسعى لربط آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بشبكات من التجارة والاستثمار، مما يمنح الصين نفوذاً واسعاً وقدرة على تجاوز المؤسسات التي يهيمن عليها الغرب.
نمو الصين الاقتصادي كان مذهلاً، إذ ارتفع ناتجها المحلي من 367 مليار دولار عام 1992 إلى 20 تريليون حالياً، مقارنة بـ30 تريليون لأميركا. هذا النمو موّل تحديثاً عسكرياً واسعاً، يعتمد على مبدأ "الحرمان من الوصول والسيطرة على المناطق"، لردع التدخل الأمريكي في محيطها الإقليمي. كما أسهمت بكين في تأسيس مؤسسات بديلة مثل "بريكس" ومنظمة شنغهاي وبنك التنمية الجديد، سعياً نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب.
أما الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فتمثلت في منع بروز منافسين لها في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط. غير أن محاولاتها لاحتواء روسيا بتوسيع الناتو، ودفع الصين نحو الديمقراطية عبر الانخراط الاقتصادي، انتهت بالفشل؛ إذ أعادت موسكو فرض نفسها، واحتفظت الصين بنظامها السياسي السلطوي، بل أصبحت أكثر جرأة على المستويين العسكري والإقليمي.
في الشرق الأوسط، ركزت واشنطن على السيطرة على النفط وتعزيز هيمنة الدولار عبر ما يُعرف بـ"البترودولار"، وخصوصاً بعد فك ارتباطه بالذهب عام 1971. وبعد هجمات 11 سبتمبر، انزلقت أميركا في مشاريع تغيير الأنظمة الاجتماعية في أفغانستان والعراق تحت شعارات الديمقراطية، لكنها انتهت بفشل عسكري وسياسي مدوٍّ.
العلاقة مع إسرائيل شكّلت محور السياسة الأميركية في المنطقة. فمنذ حرب 1967، اعتُبرت تل أبيب حليفاً استراتيجياً، وتغلغلت في السياسة الأميركية عبر جماعات الضغط. صعود المحافظين الجدد في العقد الأول من القرن الحالي عزز التوافق بين أهداف أميركا وإسرائيل، خاصة ما يتعلق بالهيمنة الإقليمية.
خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة عام 2023 كشف طموحات إسرائيل التوسعية عبر مشروع "الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا" (IMEC)، متجاهلاً كلياً القضية الفلسطينية. هذا التجاهل ساهم في انفجار انتفاضة 7 أكتوبر، التي شكلت تحولاً تاريخياً في ميزان القوى، وأظهرت هشاشة الردع الإسرائيلي، رغم امتلاكها أحد أقوى الجيوش وأجهزة الاستخبارات في العالم.
رداً على الهجوم، شنّت إسرائيل حملة تدمير شامل لغزة، أسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من الشهداء، معظمهم نساء وأطفال، دون تحقيق أهدافها العسكرية. المقاومة الفلسطينية صمدت واستمرت، بينما انهار السرد الإسرائيلي القائم على "الضحية"، وتغيرت مواقف الرأي العام العالمي، حتى في أميركا وأوروبا، حيث خرج الملايين إلى الشوارع دعماً لفلسطين، وارتفعت الدعوات إلى المقاطعة والعقوبات.
كذلك شهدت إسرائيل أزمة داخلية؛ انخفضت معنويات الجيش، تراجع الاقتصاد، انهارت السياحة، وازدادت الهجرة المعاكسة. بينما اتخذت المؤسسات الدولية خطوات غير مسبوقة كإصدار مذكرات توقيف لمسؤولين إسرائيليين، بمن فيهم نتنياهو.
رغم اتفاق الأهداف بين واشنطن وتل أبيب (إضعاف المقاومة، كبح إيران، الحفاظ على الهيمنة الإقليمية)، إلا أن استراتيجياتهما تختلف. إسرائيل تسعى لهيمنة مطلقة عبر مشاريع استيطانية وتطهير ديموغرافي، بينما تفضل أميركا استقراراً مُداراً يحفظ مصالحها ويمنع انهيار المنظومة الإقليمية.
التحولات الجارية، بما في ذلك صعود الصين، تراجع المصداقية الأميركية، وانكشاف إسرائيل، تتيح للعالم العربي والإسلامي فرصة تاريخية لفك الارتباط بالمنظومة الغربية الجائرة. فالمنظومة الدولية الراهنة أثبتت أنها تحكمها القوة لا القانون، وتدعم الاحتلال والتمييز.
التحرر من الهيمنة الأجنبية والصهيونية ضرورة استراتيجية لإطلاق نهضة عربية إسلامية حقيقية، تقوم على السيادة والوحدة والكرامة. هذا التحدي يتطلب مواجهة البنية الإمبريالية التي تسعى لتقويض أي مشروع استقلالي. فبدون التحرر الكامل، لن تُكتب لأي مشروع ديمقراطي أو اقتصادي أو حضاري في المنطقة النجاح.
https://www.middleeasteye.net/opinion/chinas-rise-exposing-cost-americas-alliance-israel