صادقت حكومة عبدالفتاح السيسي، في اجتماعها الأسبوعي، على قرار بنقل ملكية مساحات واسعة من الأراضي التابعة لأحد أهم المؤسسات البحثية في البلاد، مركز البحوث الزراعية، إلى "جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة" التابع للقوات الجوية، ما أثار جدلاً واسعاً حول مستقبل البحث الزراعي ومصير السيادة العلمية على الغذاء في مصر.

 

نزع الملكيات بلا شفافية.. أراضٍ بحثية تتحول لمشروعات مجهولة
القرار الحكومي الذي نُشر دون تفاصيل دقيقة، قضى بنقل نحو 70 فداناً من أراضي مركز البحوث الزراعية بمحافظة الجيزة، بالإضافة إلى 14.39 فداناً من أراضي وزارة الري، إلى الجهاز العسكري، لاستخدامها في مشروعات لم تُعلن طبيعتها، ما فتح الباب لتساؤلات كثيرة حول الهدف الحقيقي من هذه الخطوة.

وبحسب البيان الرسمي، تشمل الأراضي خمس قطع متفرقة بمساحات مختلفة، وتُسلم لجهاز "مستقبل مصر" الذي لم يكمل سوى ثلاث سنوات منذ تأسيسه عام 2022، لكنه أصبح يحظى بسلطات تمتد لتتجاوز وزارات وهيئات عريقة، وتطول أراضي كانت مخصصة للأبحاث العلمية في الزراعة والغذاء.

 

من البذور إلى العقارات؟ اتهامات بـ"الطمع العقاري"
يرى الخبير الزراعي والأكاديمي المصري الدكتور عبد التواب بركات، أن ما يحدث ليس إلا حلقة في سلسلة من محاولات الاستيلاء على أراضي المركز، الذي يعد العمود الفقري للبحث الزراعي في مصر. ويصف القرار بـ"جريمة إهدار للمال العام"، ويشير إلى أن موقع تلك الأراضي في مناطق سكنية حيوية يجعلها مطمعاً للعقارات لا للزراعة أو البحث.

ويعيد بركات للأذهان محاولة جمال مبارك الاستيلاء على أراضي جامعة القاهرة ومركز البحوث الزراعية قبل ثورة يناير، لتحويلها إلى مشروعات استثمارية، وهي خطة أُجهضت بثورة شعبية عام 2011. اليوم، يرى كثيرون أن السيناريو يعاد تحت مظلة مؤسسات عسكرية.

 

مركز البحوث الزراعية.. كنز علمي يُجرد من أدواته
تأسس مركز البحوث الزراعية عام 1971، ويعد أكبر مؤسسة بحثية زراعية في الشرق الأوسط وإفريقيا. يضم 16 معهداً بحثياً، و10 معامل مركزية، ويعمل به أكثر من 10 آلاف باحث. يقوم المركز بإنتاج تقاوي عالية الجودة، وتطوير محاصيل مقاومة للأمراض، وتحسين الإنتاج الحيواني والسمكي.

ووفق رئيس المركز د. عادل عبد العظيم، فإن المركز كان يعتمد على أكثر من 8 آلاف فدان لإنتاج تقاوي الأرز والقمح والذرة والكتان. سحب هذه المساحات، بحسب خبراء، يُقوض عمل المركز ويدفع البلاد نحو التبعية في الغذاء والتقاوي.

 

تآكل الميزانية وهجرة العلماء.. مؤشرات أزمة خانقة
المركز يعاني منذ سنوات من تراجع حاد في الميزانية، التي هبطت من 69 مليون جنيه في 2014 إلى نحو 3 ملايين فقط في 2017، ما انعكس على الأجور، والتجهيزات، وحجم الأبحاث. وفي موازنة 2025/2026، تُقدّر مخصصاته بـ750 مليون جنيه فقط، وهو رقم يرى فيه نواب وخبراء أنه لا يتناسب مع حجم الأعباء الملقاة على عاتقه.

في مشهد صارخ، جرت في ديسمبر 2023 إحالة خبير المركز هشام العربي لمجلس تأديب، بعد محاولته الشخصية إنقاذ سلالات دواجن وطنية مهددة بالذبح بسبب نقص الأعلاف، ما أثار موجة من الغضب في الأوساط العلمية.

 

بركات: من استزراع القمح إلى أبراج سكنية
يكشف بركات عن حالات متعددة لما وصفه بـ"اجتياح أراضي البحث العلمي من قبل مؤسسات عسكرية"، ومنها:

محطة كفر حمام بالشرقية التي تم تجريف القمح فيها وتحويلها لمساكن.

محطة بهتيم بشبرا الخيمة (380 فداناً) تم الاستيلاء عليها بسبب موقعها المميز.

مزرعة الصباحية بالإسكندرية جُرّفت بالكامل لصالح البناء العقاري.

محطة سخا في كفر الشيخ، أكبر محطة بحثية في إفريقيا، واجهت نفس المصير.

مزرعة الراهب التابعة لجامعة المنوفية تم الاستيلاء عليها مؤخراً.

وأكد أن 9 آلاف فدان من أراضي المركز جرى تأجيرها للقوات المسلحة بـ"إيجار زهيد" يبلغ 50 جنيها للفدان سنوياً ولمدة 50 عاماً.

 

جهاز «مستقبل مصر».. بين التنمية وابتلاع الصلاحيات
منذ إنشائه عام 2022، تمدد جهاز "مستقبل مصر للتنمية المستدامة" بشكل ملفت، ليصبح لاعباً أساسياً في الزراعة، والتموين، والري، والصناعة، والاستيراد، وحتى الإسكان. يدير حالياً 14 بحيرة مالحة، ويتحكم في استيراد السلع الاستراتيجية كالقمح، ويدير "بورصة السلع"، ومشروعات استصلاح ضخمة مثل:

الدلتا الجديدة: 2.2 مليون فدان

سنابل سونو: 650 ألف فدان

مشروعات بالمنيا وبني سويف وسيناء والكفرة والداخلة

ويُتهم الجهاز بإقصاء الجهات المتخصصة، والقيام بأدوار لم تكن ضمن صلاحياته، ما يثير المخاوف بشأن تغييب المؤسسات المدنية، وتحويل مسار التنمية إلى مسار "احتكاري"، بحسب تعبير مراقبين.

 

"من الفأس إلى التبعية".. معركة الأمن الغذائي على المحك
الخبير الزراعي عبد التواب بركات يختصر المشهد بقوله: "من لا يأكل من فأسه، لا يقرر من رأسه".

ويوضح أن مصر، التي كانت تتصدر قوائم الإنتاج الزراعي العالمي في محاصيل كالقمح والأرز وقصب السكر، بدأت تشهد تراجعاً حاداً في الإنتاج والاكتفاء الذاتي. فبعد أن بلغت إنتاجية الفدان من القمح 25 أردباً بفضل تقاوي المركز، عادت لتتراجع بفعل تضييق الخناق على البحوث، وغياب الدعم.

https://www.facebook.com/EgyptianCabinet/posts/1277681504402267?ref=embed_post