مع اقتراب انتخابات 2025 التشريعية، تتكشّف مشاهد صادمة لما يُوصف بأنه "أغلى برلمان في تاريخ البلاد"، حيث يُطلب من المرشحين دفع عشرات الملايين من الجنيهات لحجز مقاعدهم، في ظل انعدام الرقابة القضائية، وتحكم الأجهزة الأمنية، وتغييب كامل للمعارضة.
يُوثّق هذا التقرير تحقيقًا موسعًا في كواليس التحضير للانتخابات البرلمانية، في وقت يتحول فيه المشهد السياسي إلى "بازار مغلق" تتحكم فيه الاعتبارات المالية والأمنية، لا إرادة المواطنين أو مبادئ الديمقراطية.
برلمان للبيع.. بالملايين
لم يعد المقعد البرلماني في مصر يُكتسب عبر دعم حزبي أو شعبية سياسية، بل أصبح سلعة تُباع وتشترى بأسعار فلكية. وكشفت مصادر حزبية شاركت في إعداد القوائم الانتخابية أن تكلفة الترشح على "القائمة الوطنية من أجل مصر" تصل إلى 70 مليون جنيه لمقعد النواب و30 مليونًا لمقعد الشيوخ، تُدفع لصندوق "تحيا مصر"، بينما يدفع المعيّنون ما يقرب من 50 مليون جنيه لتأمين موقعهم.
وفي ظل هذا النظام المغلق، لم تعد الكفاءة أو الخبرة السياسية هي المعيار، بل حجم المساهمة المالية، ما دفع مراقبين إلى وصف العملية بأنها "عملية بيع رسمية للمقاعد التشريعية".
القائمة الوطنية.. ضمان النجاح مقابل الدفع
تضم "القائمة الوطنية من أجل مصر" 13 حزبًا تقودهم أحزاب السلطة وعلى رأسهم "مستقبل وطن"، وقد تحوّلت إلى الممر الإجباري لأي راغب في دخول البرلمان، مع تخصيص مقاعد محددة لأحزاب معارضة "مُروّضة" تُمنح حضورًا شكليًا لإضفاء التعددية على المشهد.
وكشفت مصادر مطلعة أن الأسماء يتم توزيعها على القوائم بشكل يضمن تمرير مرشحي الدولة، مع تقسيم داعمي السلطة على عدة قوائم لضمان فوزهم جميعًا، وإظهار "تنوع مصطنع" في التمثيل.
السوق السوداء للصوت الانتخابي
في الدوائر الفردية، لا يقل المشهد سوءًا، حيث يُباع الصوت الانتخابي نقدًا. يحصل المواطن على 100 إلى 250 جنيهًا وكرتونة مواد غذائية مقابل صوته، وتُدار العملية عبر سماسرة ومنسقين يعملون لصالح المرشحين، بعضهم اتفقوا مسبقًا على تقاسم الأصوات في جولات الإعادة.
ووفق إفادات من مصادر شاركت في لجان سابقة، تنتشر هذه الممارسات في كافة المحافظات، مدفوعة بالفقر والعوز، ومسنودة بصمت الدولة، ما يجعل من المال السياسي أداة أساسية للفوز، بدلًا من البرامج أو القناعات السياسية.
الرقابة القضائية.. سقطت آخر ضمانات النزاهة
للمرة الأولى منذ عقود، تُجرى الانتخابات دون إشراف قضائي شامل، بعد انتهاء المدة الدستورية للإشراف القضائي وفق دستور 2014. ويُعد غياب القاضي عن كل صندوق انتخابي تحولًا خطيرًا، بحسب منظمات حقوقية، لأنه يُضعف فرص المحاسبة ويفتح الباب أمام مزيد من التزوير وشراء الأصوات.
ورغم وجود نصوص قانونية تُجرّم الرشاوى الانتخابية، إلا أن غياب الرقابة و"تفصيل القوانين لخدمة النظام" جعل منها حبرًا على ورق، بحسب مراقبين.
قانون القوائم المغلقة.. وسيلة احتكار لا تمثيل
منذ 2015، تعتمد مصر على نظام "القوائم المغلقة المطلقة" في توزيع 120 مقعدًا من مجلس النواب. هذا النظام يُقصي أي قائمة منافسة، ويمنح القائمة الفائزة بكل الأصوات (50% +1) كامل المقاعد دون تمثيل نسبي، ما يعني فعليًا أن نتيجة الانتخابات محسومة سلفًا.
تدافع السلطة عن هذا النظام باعتباره يضمن تمثيلًا للمهمّشين، كالشباب والنساء والمسيحيين، لكن المعارضة ترى فيه "أداة تحكّم تُقصي المنافسة وتمنع التعددية".
الشيوخ 2025.. انتخابات بلا منافسة
في انتخابات مجلس الشيوخ المقررة أغسطس المقبل، تخوض "القائمة الوطنية" السباق منفردة دون أي منافس في نظام القوائم. أما على المقاعد الفردية، فشهدت الساحة تدافعًا حزبيًا واسعًا، بينما أعلنت "الحركة المدنية الديمقراطية" مقاطعتها التامة، معتبرة أن الانتخابات فاقدة للنزاهة ولا تُمثّل الإرادة الشعبية.
ويقول طلعت خليل، منسق الحركة المدنية: "المشهد الانتخابي تحوّل إلى سباق مالي لا مكان فيه للسياسة، وهناك قوانين تمنع لا تُنظم، وتُقصي بدلًا من أن تُمكّن".
معارضة مغيّبة ومشهد مغلق
يؤكد أكرم إسماعيل، القيادي بحزب العيش والحرية، أن العملية الانتخابية "خاضعة بالكامل لترتيبات أمنية مسبقة"، وأن المرشحين لا يدخلون البرلمان إلا بعد المرور عبر "بوابة الأجهزة"، مشددًا على أن غياب الحضور الشعبي الحقيقي جعل من المال الوسيلة الوحيدة للحشد.
ويُضيف: "المقعد البرلماني لم يعد يُنتخب، بل يُشترى"، لافتًا إلى أن تكلفة ترشحه ضمن إحدى القوائم بلغت 70 مليون جنيه، ولم يتمكن من جمع سوى ألفي جنيه، ما يُبيّن حجم الإقصاء الطبقي والسياسي في البلاد.
أحزاب تُموَّل لا تُنتخب
تُظهر بيانات الترشح أن معظم الأحزاب المشاركة في الانتخابات هي أحزاب موالية، بعضها حديث النشأة بلا قواعد شعبية أو برامج واضحة. ومع غياب إشراف دولي أو رقابة فعالة، وتحكُّم شبه كامل في الإعلام، تبدو العملية الانتخابية كأنها إعادة توزيع داخل تحالف السلطة، أكثر من كونها تعبيرًا عن الإرادة الشعبية.
أزمة ثقة شاملة
في ظل هذه المشاهد، تتصاعد حالة من العزوف الشعبي وفقدان الثقة، حيث أصبح الناخب المصري يشعر أن صوته لا وزن له، وأن البرلمان مجرد واجهة خالية من التأثير الحقيقي.
يقول أحد السياسيين: "لم تعد الانتخابات طريقًا للتغيير، بل أصبحت مسرحية مدفوعة الثمن، جمهورها غائب، وممثلوها مختارون مسبقًا".
برلمان بلا شعب
بين غياب الرقابة، واستشراء المال السياسي، وتهميش المعارضة، يدخل البرلمان الجديد في 2025 وهو يحمل وصمة "البيع والشراء"، بدلًا من أن يكون صوتًا للشعب أو ممثلًا لتنوعه.
وتبدو الديمقراطية اليوم، أقرب ما تكون إلى سوق نخبوية مغلقة، لا مكان فيها للفقراء أو لأصحاب المبادئ، بل فقط لمن يملك المال، والرضا الأمني.
ففي بلد يمتد تاريخه النيابي لأكثر من 160 عامًا، تبدو انتخابات 2025 وكأنها نقيض لكل ما بُني عليه هذا التاريخ.