مستهدف مواليد تحت المليونين سنويًا

في تصريح أثار جدلاً واسعًا، أعلن وزير الصحة والسكان في حكومة الانقلاب، الدكتور خالد عبد الغفار، أن الحكومة تستهدف خفض عدد المواليد السنوي إلى أقل من مليوني مولود، كجزء من ما يُعرف بـ"الاستراتيجية القومية لتنمية الأسرة المصرية".

وأكد الوزير، خلال كلمته أمام مجلس الوزراء في 10 يوليو 2025، أن الدولة "تبذل جهودًا شاملة للحد من معدلات النمو السكاني"، معتبرًا أن هذا الملف "أكثر خطورة من الإرهاب".

أشار الوزير إلى تراجع معدل الإنجاب الكلي في مصر من 2.85 طفل لكل سيدة في 2021 إلى 2.41 طفل في 2024، مسجلاً بذلك انخفاضاً تاريخياً مهمًا في مؤشرات النمو السكاني.

يمثل هذا التحول نتيجة جهود مكثفة للتوعية بصحة الأم والطفل، وتعزيز خدمات تنظيم الأسرة، حيث تسعى الحكومة لرفع نسب استخدام وسائل تنظيم الأسرة فور الولادة إلى 90%، وإلغاء الرسوم على هذه الخدمات لضمان الوصول إلى أغلب السيدات خاصة في ظل التنوع السكاني بين المحافظات

يأتي هذا التوجه ضمن سياق أوسع تتبناه السلطة الانقلابية منذ 2014، يركّز على تحميل المواطن مسؤولية فشل الدولة الاقتصادي، مستخدمًا الزيادة السكانية كذريعة، في حين يتجاهل سوء الإدارة، وغياب التنمية الحقيقية، والاعتماد المفرط على الديون.

 

السيسي يحمّل المواطن عبء الأزمة

منذ استيلائه على الحكم في 3 يوليو 2013 عبر انقلاب عسكري، دأب عبد الفتاح السيسي على تكرار مقولة "الزيادة السكانية تأكل التنمية"، مستخدمًا إياها كغطاء لأزمة اقتصادية طاحنة عمّقها بنفسه من خلال مشاريع وهمية، وصفقات سلاح ضخمة، وإهدار موارد الدولة، ففي فبراير 2023، صرّح السيسي أن "كل ما يتحقق من نمو اقتصادي تأكله الزيادة السكانية"، مُشبهًا الوضع بـ"من يملأ كوب ماء مثقوب".

لكن الحقيقة أن معدلات النمو السكاني تراجعت بالفعل خلال العقد الأخير، فقد انخفض معدل المواليد من 3.5 طفل لكل امرأة عام 2014 إلى نحو 2.85 عام 2023، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، دون أن ينعكس ذلك بأي شكل إيجابي على معيشة المواطنين.

 

تجاهل متعمد لأهمية النمو البشري

بدلًا من الاستثمار في العنصر البشري، وتحويل النمو السكاني إلى طاقة إنتاجية واقتصادية عبر التعليم والتدريب والتصنيع، اختارت السلطة مواجهة هذا النمو بإجراءات تقييدية تتجاهل تمامًا الجانب التنموي. في المقابل، تُظهر تجارب اقتصادية كبرى مثل الصين والهند كيف يمكن تحويل الزيادة السكانية إلى ميزة تنافسية.

يرى خبراء أن محاربة النمو السكاني بدون خطة اقتصادية إنتاجية تُعد "سياسة عمياء"، بل وقد تؤدي إلى شيخوخة مبكرة للمجتمع، ما يُنذر بأزمة مستقبلية في سوق العمل والضمان الاجتماعي، كما يحدث الآن في كوريا الجنوبية واليابان، ولكن دون امتلاك مصر قاعدة علمية أو تكنولوجية مشابهة.

 

فرض وسائل منع الحمل

تُظهر تصريحات مسؤولي حكومة السيسي توجّهًا لتوسيع برامج "تنظيم الأسرة"، لكن بأسلوب أقرب إلى الفرض والإكراه منه إلى التوعية والتمكين.

فقد أُعلن في يونيو 2025 عن خطة جديدة بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، تستهدف توزيع وسائل منع الحمل مجانًا في المناطق الريفية والعشوائية، مع التركيز على الفئات الأفقر.

وأفادت تقارير صحفية بأن الحكومة تدرس تقديم حوافز نقدية مؤقتة لمن لا يُنجبون أكثر من طفلين، وهو ما اعتبره حقوقيون انتهاكًا لحق المواطنين في تقرير مصيرهم الأسري، وتمييزًا ضد الأطفال من أسر فقيرة، كما أبدى آخرون تخوفًا من أن تتحول هذه السياسات إلى شكل من أشكال "الهندسة السكانية" السياسية.

 

الإنفاق على القمع بدلًا من التنمية

في الوقت الذي تُحمّل فيه السلطة المواطن عبء الأزمة السكانية، يواصل النظام ضخ الأموال في الأجهزة الأمنية والمخابراتية والقصور الرئاسية.

وتشير تقارير إلى أن ميزانية الأجهزة السيادية وحدها تجاوزت 470 مليار جنيه في موازنة 2024/2025، في حين لا يتجاوز الإنفاق الحكومي على التعليم 2.5% من الناتج المحلي، وهو أقل بكثير من المتوسط العالمي.

وبينما يُروّج النظام لمشروعات "تنظيم الأسرة" باعتبارها بوابة التنمية، يترك ملايين الأطفال خارج المدرسة، ويُفرغ الجامعات من محتواها، ويقيد حرية البحث العلمي والإعلام، ما يجعل الحديث عن "التحكم في المواليد" محاولة بائسة لإخفاء فشل بنيوي.

 

معركة الدولة ضد الإنسان

تبدو استراتيجية السيسي ومنظومته الحاكمة ليست حربًا على الزيادة السكانية فحسب، بل معركة ضد الإنسان المصري ذاته، فبدلًا من تنميته وتعليمه وتمكينه، يُجرّد من أبسط حقوقه في الإنجاب والمعيشة الكريمة، في ظل غياب رؤية اقتصادية متكاملة.

لقد تحوّل المواطن من عنصر أساسي في معادلة التنمية إلى "عبء" يجب التخلص منه، وفق خطاب رسمي لا يُخفي عداءه للناس، سواء بتجويعهم أو بتقييد خصوبتهم.

وتبقى الأسئلة الكبرى بلا إجابة: ما جدوى خفض عدد المواليد في بلد بلا صناعة ولا استقلال ولا حرية؟ وهل يمكن للتنمية أن تقوم على أنقاض الإنسان؟