تواصل وول ستريت المراهنة بمليارات الدولارات على أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يعني ما يقول عندما يهدد بفرض رسوم جمركية. هذه مجازفة كبيرة، لأن معظم المستثمرين لا يدركون طريقة تفكير ترامب أو دوافعه العميقة.
وزير الخزانة سكوت بيسنت عبّر عن فهمه لجدية الرئيس، عندما صرّح لشبكة بلومبيرج أن "التركيز المفرط على الأسواق ليس صائبًا"، موضحًا أن ترامب يرى في لحظة التوتر الحالية فرصة تاريخية لإعادة تشكيل قواعد التجارة العالمية بما يخدم الشعب الأمريكي.
جوش ليبكسي، رئيس قسم الاقتصاد الدولي في أتلانتيك كآونسل، وصف الفجوة بين الإدارة والمستثمرين بأنها "انفصال خطير". الأسواق تواصل الشراء بثقة، وترامب يواصل التهديد برسوم جديدة، وكل طرف يعتقد أنه لن يدفع الثمن في النهاية.
لكن هذا التوازن الهش قد ينكسر قريبًا. إذا مضى ترامب في تهديده المعلن بتطبيق الجولة الجديدة من الرسوم في الأول من أغسطس، فقد تضطر الأسواق إلى التراجع وإعادة التسعير.
كلما راهن المستثمرون على تراجع ترامب، شجعوه على المضي قدمًا. ما دامت الأسواق لا تعاقب، فلمَ لا يهدد البرازيل برسوم 50% بسبب ما يعتبره إساءة للرئيس السابق بولسونارو؟ ولمَ لا يوجّه خطابات لعشرات الشركاء التجاريين مهددًا برسوم تبلغ 30% على واردات من المكسيك والاتحاد الأوروبي؟
يتحول الموقف إلى لعبة شدّ حبل عالمية بين المستثمرين وترامب، وقد يخسر الطرفان. لذلك، على من يراهن في السوق أن يضع في حساباته أن ترامب لا يتصرف بمنطق اقتصادي صرف، بل برؤية سياسية شاملة، وهو ما يجعل الانفصال أكثر خطورة.
إعادة صياغة التجارة العالمية
يرى ترامب أن النظام التجاري العالمي لم يخدم مصالح العمال الأمريكيين منذ عقود، وهو مصمم على تغييره. عودته إلى البيت الأبيض جاءت بإشارة واضحة إلى أن الصراع التجاري هذه المرة سيكون أعمق وأكثر تكلفة من المتوقع.
ترامب يستخدم الرسوم الجمركية كسلاح لتحقيق أهداف متعددة: معاقبة الخصوم الحقيقيين أو المتخيّلين، تمويل خفض الضرائب، تحفيز الصناعة المحلية، وتحقيق الأفضلية لأمريكا في التجارة العالمية. كل ذلك يصب في مشروعه "للانتصار للعامل الأمريكي".
بهذه العقلية، يخوض العالم تحوّلاً تجاريًا لم يشهد مثله منذ قانون الرسوم الجمركية سموت-هاولي عام 1930، أو حتى اتفاق بريتون وودز عام 1944. الأول رفع الرسوم وتسبب في انكماش التجارة وتفاقم الكساد الكبير، أما الثاني فأسس لنظام نقدي جديد ساعد في تفكيك السياسات الحمائية بعد الحرب.
بالنسبة لترامب، الرسوم ليست الملاذ الأخير بل وسيلة لتحقيق أهداف لا تزال تتشكّل. هو يختبر قدرة منظمة التجارة العالمية، ويغامر بإجراءات انتقامية من الصين وأوروبا وغيرها، ويعيد كتابة السياسات التجارية دون تقديم بدائل واضحة. حلفاء واشنطن يرون أن المسألة لا تتعلق فقط بالمحتوى، بل بالرسالة التي تبعثها سياسات غير منضبطة من بلد أسّس النظام القائم ثم بدأ التمرد عليه.
سياسة بلا كوابح واضحة
الرسوم الجمركية في نظر ترامب ليست محسوبة بنفس الدقة التي اتخذ بها قراره بضرب المنشآت النووية الإيرانية مؤخرًا، وهي العملية التي أثنى عليها الكاتب في مقالات سابقة. ففي حينها كانت الخطط واضحة، والدفاعات الإيرانية منهارة، ورد الفعل محدود. أما في الرسوم، فقد يستخف ترامب بقدرة الصين أو أوروبا على الرد اقتصاديًا.
في قمة الناتو الأخيرة بلاهاي، نجح ترامب في طمأنة الحلفاء الأوروبيين. كندا وأوروبا التزمتا برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي بحلول 2035، والولايات المتحدة ضاعفت مساعداتها لأوكرانيا وشددت الضغط على بوتين، ما بدّد كثيرًا من مخاوف أوروبا.
لكن، مع كل هذه السياقات، على الأسواق والشركاء التجاريين الاستعداد لاحتمال ارتفاع متوسط الرسوم الجمركية الأمريكية من 2.5% إلى 15% أو أكثر بحلول أغسطس.
يجب على صناع القرار الأمريكيين والحلفاء أن يتخلّوا عن أوهام "المعركة المجانية" وأن يدركوا أن ترامب لا يفاوض فحسب، بل يعيد هندسة النظام بأكمله. يقول ليبكسي: "من يريد تفكيك نظام عمره قرن عليه أن يطرح رؤية لما بعده".
نجح ترامب في إرباك خصومه وتعديل المسار مرارًا. لكن على المستثمرين التحوّط، وعلى رجال الأعمال وضع خطط بديلة، وعلى الشركاء التجاريين البحث عن بدائل، في حال تحوّل تهديد الرسوم إلى عقيدة طويلة الأمد.
https://www.atlanticcouncil.org/content-series/inflection-points/beware-the-dangerous-disconnect-between-trump-and-the-markets-on-tariffs/