تحولت مأساة الطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية، شمال القاهرة، إلى رمز صارخ لواقع قاتم يعيشه قطاع النقل البري في مصر، بعد أسبوع دامٍ راح ضحيته عشرات الأبرياء في سلسلة من الحوادث المروعة. لم يعد الخوف من الطريق وحده، بل من وسيلة النقل ذاتها، حيث تحوّلت وسائل المواصلات إلى "قنابل موقوتة"، يقودها في كثير من الأحيان سائقون بلا تراخيص.

في الأحياء الفقيرة والمناطق الريفية، حيث تغيب وسائل النقل الآمن، تُستبدل المركبات التقليدية بشاحنات البضائع لنقل الركاب، ويتكدس المواطنون في وسائل معدومة الأمان مثل "التوك توك" و"التروسيكل"، وغالبًا يقودها صبية مراهقون بعيدًا عن أي رقابة تُذكر.

 

مسرح لنزيف الدم

ورغم إعلان الدولة عن استثمارات ضخمة في البنية التحتية تجاوزت 2 تريليون جنيه (أكثر من 40 مليار دولار) خلال السنوات العشر الماضية، تبقى شوارع مصر مسرحًا يوميًا لنزيف الدم. قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي أكد أن مصر قفزت إلى صدارة تصنيف جودة الطرق عالميًا، لكن الأرقام الحكومية ترسم صورة مختلفة: أكثر من 5,260 وفاة و76,362 إصابة بحوادث الطرق خلال 2024 وحده، بينهم 24,745 طفلًا دون الخامسة عشرة، فيما تتزايد المخاوف من ارتفاع الفاتورة الإنسانية على طرق الموت.

لم تعد الأرقام الصادمة لحوادث الطرق مفاجئة للمصريين الذين اعتادوا مشاهد الحوادث المروعة في ظل غياب الرقابة المرورية وضعف تطبيق القوانين، وسط شكاوى متزايدة من تهالك الطرق وسلوكيات السائقين المتهورة، الذين يقودون مركبات بلا صيانة حقيقية.

وفي هذا السياق، تقدم عضو مجلس النواب وأستاذ القانون الجنائي إيهاب رمزي بطلب رسمي إلى رئيس مجلس النواب، موجه إلى رئيس وزراء السيسي، الدكتور مصطفى مدبولي، محذرًا من استمرار ظاهرة نقل المواطنين في مركبات تفتقر لأدنى معايير الأمان. وقال رمزي إن "سيارات النقل، خصوصًا في المناطق الريفية والنائية، باتت وسيلة أساسية لنقل العمال والطلاب، رغم كونها غير مخصصة لنقل الركاب، ما يؤدي إلى كوارث متكررة من إصابات قاتلة ووفيات بسبب انقلاب المركبات أو تصادمها نتيجة تحميل غير آمن وغياب الرقابة في تلك المناطق". وطالب النائب بوقف هذه الظاهرة وفرض رقابة صارمة لحماية أرواح المواطنين.

 

صناديق صفيح على عجلات

من جانبه، يصف ياسر عبد الوهاب، موظف من منطقة "بشاير الخير" غرب الإسكندرية، معاناته اليومية مع النقل قائلًا: "أحتاج إلى أكثر من وسيلة مواصلات يوميًا للوصول إلى عملي وسط المدينة، معظمها سيارات متهالكة أو (توك توك) غير مرخص بدون لوحات، يكدس السائقون الركاب بلا أي التزام، بينما الجهات المعنية تكتفي بتحرير المخالفات وتحصيل الغرامات دون حل جذري".، وفقًا لـ"العربي الجديد".

من كفر الدوار بمحافظة البحيرة، يروي محمد السعدني، فني صيانة بمستشفى خاص، معاناته اليومية قائلًا: "أستخدم ثلاث وسائل نقل يوميًا، تفتقر لأي معايير آدمية أو أمان، فقط لإيصال أبنائي إلى المدرسة ثم الذهاب إلى عملي في الإسكندرية. هذه الوسائل مجرد صناديق صفيح على عجلات، بالكاد تصلح لنقل البضائع، ومع ذلك نضطر لاستخدامها لغياب البدائل". ويؤكد أن شكاوى السكان من انعدام المواصلات الآمنة لم تجد أي صدى، ما يدفع الأهالي لاستخدام سيارات ربع نقل وغيرها من المركبات العشوائية التي تعمل دون أي رقابة.

 

غياب دعم الدولة

وفي بني سويف (جنوب البلاد)، تحكي الطالبة الجامعية إيمان فتحي رحلتها اليومية الشاقة للوصول إلى جامعتها، حيث تضطر لاستقلال “توك توك” يقوده طفل لم يتجاوز 14 عامًا، وتقول: "ندرك حجم الخطر لكن لا بديل أمامنا، الحوادث تتكرر يوميًا وتحصد أرواح البسطاء، من طالبات في طريقهن للدراسة، إلى عمال عائدين لمنازلهم، وكل حادث يترك خلفه أسرًا مدمّرة ومستقبلًا مفقودًا دون أي دعم حقيقي من الدولة".

أما من موقف العامرية بالإسكندرية، يوضح السائق شعبان جابر واقع النقل قائلًا: "أملك تروسيكل مخصص لنقل البضائع، أضفت له مقاعد لركاب لأنه لا توجد مواصلات منتظمة، ونضطر لنقل الناس رغم المخاطر".

 

طرق بلا روح

ويؤكد المستشار سامي مختار، رئيس الجمعية المصرية لرعاية ضحايا الطرق، أن الأزمة أعمق من مجرد مخالفات فردية، مضيفًا: "في القرى والمناطق النائية لا توجد مواصلات رسمية، لذلك يعتمد الناس على وسائل نقل غير آمنة يقودها غالبًا مراهقون بلا تراخيص، وتتحول مواقف الركوب إلى ساحات عشوائية تغيب عنها الرقابة تمامًا، وهو ما يتسبب يوميًا في كوارث مرورية مستمرة".

يرى محمد جبريل، عضو لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب، أن تكرار الحوادث على الطريق الإقليمي يمثل إنذارًا حقيقيًا للحكومة بضرورة مراجعة منظومات الأمان ومعايير “كود الطرق” ومدى توافقها مع المعايير الدولية، خاصة بعد إنفاق الدولة عشرات المليارات على مشروعات البنية التحتية وشبكة الطرق، الأمر الذي يستدعي الحفاظ عليها وضمان سلامة مستخدميها.

وفي السياق ذاته، أشار اللواء أيمن الضبع، مساعد وزير الداخلية الأسبق وخبير السلامة المرورية، إلى أن "الكثير من الطرق الجديدة تفتقد للمعايير الحقيقية للسلامة، فهي طرق بلا روح". وأضاف في تصريحات صحفية: "رغم أن التصميم الهندسي الجيد كفيل بإنقاذ الأرواح، إلا أن الاستعجال في التنفيذ ومحاباة المقاولين تقتل المواطنين، الذين يبقون الحلقة الأضعف في المعادلة".

وتحدث الضبع عن الأعباء الاقتصادية التي زادت من خطورة الوضع، موضحًا أن انهيار العملة وارتفاع الدولار جعل صيانة السيارات عبئًا ثقيلًا، حيث ارتفعت أسعار الإطارات إلى ستة أضعاف خلال عامين، وأصبحت قطع الغيار الأصلية رفاهية لا يستطيع المواطن تحملها، ما زاد الاعتماد على قطع غيار رديئة أو مستعملة.

واختتم الضبع بقوله إن الحل لا يكمن فقط في تشييد طرق جديدة، بل في بناء منظومة نقل متكاملة تحمي حياة المواطنين، تقوم على وسائل نقل آمنة، صيانة دورية، سائقين مدربين ومرخصين، وتطبيق صارم للقانون على الجميع دون استثناء.