فتحت حادثة سير راح ضحيتها 18 فتاة وسائق كان يقلهن لجمع فاكهة العنب، ملف العمالة غير المنتظمة، أو ما يطلق عليه في مصر الصخرة المقننة، فقد كان هذا الملف عصياً على الفتح أو الحلحلة أو النقاش العلمي، حول هذا الداء المتمثل في ملايين، غير موثقة العدد، تفتقد الحدود الدنيا من كرامة العيش، والدواء المتمثل في القيام بدور الداعم الرئيس للاقتصاد في أوقات الأزمات والكوارث.

عقود طويلة، وقاعدة العمالة غير المنتظمة تتوسع بسرعة نمو السكان وعلى رغم أنها قديمة قدم التاريخ منذ محمد علي، إلا أن مع سيطرة العسكر على مقاليد الحكم بالبلاد شهدت السبعينيات التوسع الأكبر في الاقتصاد غير الرسمي، بسبب عدم قدرة العسكر على إداراة البلاد اقتصاديا.

ومع هذا الضعف الواضح في حكومات العسكر تفاقمت الأسباب التي أدت لرجوع نظام الصخرة من جديد لكنها أصبحت في صورة مقننة فالانفتاح الاقتصادي الغير مدروس جلب قاعدة عريضة تعمل في المصانع والمزارع إلى "العمل الحر" الناجم عن سياسة الانفتاح الاقتصادي الاستهلاكي السطحي، وتقلص فرص  (التوظيف الحكومي) الذي كان التطور الطبيعي لأي حامل شهادة دراسية، إضافة إلى موجات الهجرة من الريف إلى المدينة هرباً من محدودية العمل الزراعي إلى رحابة العمالة غير الرسمية، وإن ظل العمل الزراعي أحد أكبر المجالات استيعاباً للعمالة غير المنتظمة.

وأخذ قطاع العمالة غير المنتظمة في التمدد، وجهود مواجهته تلاشت في رغبة العسكر عدم تحمل أعباء إضافية بإيجاد وظائف لحاملي الشهادات، ومعها أيضاً المقاومة، مضافاً إليها عوامل يصب معظمها في خانة مزيد من تمدد القطاع. 

ويظل هذا التمدد عامراً بالتناقضات، الدولة تنسحب، وسط تنامي العديد من المشروعات الوقتية، مثل البناء والمحاجر والنقل تعتمد على هذه العمالة.

ليكون عدم التقنينوانسحاب الدولة من مسؤلياتها يأتي بنتائج عكسية على معيشة البعض في أوقات الأزمات، إذ يعد العمل غير الرسمي الملاذ الوحيد للقمة العيش. إنه الملاذ الذي أصبح منظومة سخرة.

فحادثة الفتيات الجامعات للعنب تسببت في حزن شعبي عميق لفداحتها، وكعادة مثل هذه الحوادث التي تزهق فيها أرواح كثيرة من الفئات البسيطة والفقيرة، تتعالى صيحات الغضب الشعبية وسط التجاهل الحكومي المتسبب الأكبر لهذه الكوارث المتكررة تاركهم بين ثالوث كفاح الغلابة الفقر والسعي وراء لقمة العيش، وبؤس الإهمال الحكومي.

 

النقل

وتبدأ أولى أزمات العمالة الغير منتظمة من النقل وعدم توفير الحافلات الآدمية المناسبة، فبدلاً من توفير باص مرخص منظم يحمل 23 عاملاً هي سعته المقررة يخضع للرقابة ويحاسب على الأخطاء، يجري تحميل 40 أو 50 عاملاً في مركبات غير مخصصة للأفراد ولا تخضع إلا لما يقرره السائق من قواعد يؤدي كثير منها إلى إراقة الدماء. المراقة دماؤهم أشخاص بلا عقود عمل أو تأمين أو حتى تأبين، ونماذج "الأعباء" كثيرة.

 

الأعداد الغير مسجلة

وتتجاهل الحكومة أعداد العمالة غير المنتظمة حيث تقدرها بنحو  1.164.12 عاملاً. وجاءت القاهرة على رأس قائمة المدن الجاذبة لهذا النوع من العمالة، بينما قال رئيس النقابة العامة للعاملين في الصناعات الغذائية ونائب رئيس اتحاد العمال وعضو مجلس الشيوخ خالد عيش، في تصريحات صحفية، إن عدد العاملين غير النظاميين يتعدى الـ20 مليون عامل. وذهبت تقديرات أخرى لمنظمات وجمعيات ترجح أن يراوح العدد ما بين 8 و13 مليوناً.

ومن تباين التصريحات نجد أن الحكومة لا تريد حصر لتلك العمالة وتهمشها وتضعها تحت طائلة الصخرة المقننة فلا حقوق لهم ولا منظمات تدافع عنهم، متهربة من المسئؤلية الكاملة التي يفترض أن تكون أول المدافعين عنهم لكنها سياسة العسكر التي تتبنى الصخرة وأن جميع الشعب عندها عبيد مثلهم مثل المجندين يعملون في صخرة ويأخذون الفتات.

 

تهرب العسكر من المسئولية

وتشخيص الحال يبدأ من معرفة أسبابه والذي يبدأ من حكم العسكر الذي يتهرب من مسئولياته تجاه هذا القطاع الكبير والنمو الرهيب في العمالة غير المنتظمة إذ يتهرب من كلفة انتقالهم من القطاع غير المنظم إلى المنظم من تسجيل وترخيص وتأمين صحي ومعاشات وضرائب وحقوق عمال وغيرها باهظة بالنسبة إلى أصحاب الأعمال، والتعقيدات التنظيمية والبيروقراطية قوة طاردة تحول على مدار العقود دون هذا التحول، والتصورات الاجتماعية الراسخة لدى العمال أنفسهم بأن الميزات المالية الفورية الميزات الطويلة الأجل للوظائف المنظمة، لا سيما في ظل انخفاض قيمة الضمان الاجتماعي والمعاشات.

دائرة العمالة غير المنتظمة مغلقة بإحكام. أعداد "المنشآت الاقتصادية" المعتمدة على هذا النوع من العمالة تزيد، وأعداد العمال والأطفال الذين يجري ضخهم إلى سوق العمل غير المنتظم يزيد، وقدرة سوق العمل النظامية على استيعاب هذه الأعداد، لا سيما وأن الجانب الأكبر منها يعاني نقصاً أو انعداماً أو تدني جودة التعليم وكذلك المهارات، وإيمان العمال والعاملات أنفسهم بالتنظيم والتقنين غائب بصورة شبه كلية، بسبب الفساد والجهل الذي أغرق به العسكر الفقراء.

 

غياب قواعد السلامة المهنية

ودائما ما نسمع يوميا عن عامل تركيب جهاز التكييف الذي هوى من الطابق العاشر، لأنه جرى العرف على تركيب الأجهزة من دون إجراءات سلامة، والعمال الذين تطايروا في الهواء حين اضطر قائد السيارة المخصصة لنقل البضائع التي تقلهم إلى التوقف فجأة، وعامل البناء الذي وقع عليه حجر ضخم مما تسبب في إعاقة جسدية تمنعه من العمل، والعاملة المنزلية التي وقعت من على الدرج أثناء تنظيف وحدة الإضاءة، والطفل الذي أصيب بكسر في الجمجمة ونزف في المخ بعدما تعرض لإصابة في الورشة، وغيرهم يعدون ما جرى "قضاء وقدراً"، وهذا جزء من الحقيقة. الجزء الآخر هو أن ظروف العمل الهشة، وغياب قواعد السلامة المهنية، وعدم وجود برامج حماية وعلاج وتقاعد وغيرها يفاقم من حجم الأخطار التي تتعرض لها هذه الملايين وسط تجاهل حكومة العسكر لهم فلا أحد يحاسبهم ومن يحاسب هو السائق أوصاحاب العمل ولا يحاسب من تركه ولم يوفر له الحماية اللازمة من المسئولين.

 

عمالة الأطفال

من جهة أخرى تزداد وتترسخ قاعدة العمالة غير المنتظمة يوماً بعد يوم. مكون الأطفال العاملين ومستقبلهم العملي الذي لا يخرج عن هذا القطاع، لا سيما أن معظمهم يتسرب من التعليم أو لا يلتحق به أصلاً، نتيجة تفاقم المصاعب الاقتصادية.

وفقاً لأحدث أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2021)، يتوجه 1.6 مليون طفل إلى العمل يومياً، بنسبة تعادل 9.3 في المئة من إجمال عدد الأطفال في مصر، والمقدرة أعدادهم بنحو 39.5 مليون طفل. أما منظمة العمل الدولية فقدرت أعدادهم عام 2024 بنحو 2.6 مليون طفل.

تتفاوت التقديرات لقوام هذا الجيش "الصغير"، وتبقى الحقائق، منها أن أبرز مجالات عمالة الأطفال في مصر هي الزراعة والورش الحرفية وأعمال البيع والمحاجر والعمالة المنزلية وأعمال الإنشاءات والبناء، وغيرها. ويظل العامل الاقتصادي هو الأبرز، إذ يدفع الأسر الفقيرة لتشغيل أطفالها، وذلك من دون النظر إلى سلامة الصغار، لا سيما في مجال الأعمال التي تعرضهم للخطر، وبصورة لا تتناسب مع أعمارهم وقدراتهم.