في قلب القاهرة، حيث يتداخل التاريخ مع التكنولوجيا، يقف مبنى "سنترال رمسيس" شامخًا، شاهدًا على قرن كامل من تطور الاتصالات في مصر. المبنى، الذي لا يلفت انتباه أغلب المترددين عليه سوى لسداد فواتير أو حل أعطال الإنترنت، اتضح فجأة أنه أكثر من مجرد وحدة خدمية تقليدية؛ إنه شريان رقمي يضخ البيانات والاتصالات إلى مختلف أنحاء البلاد، وهمزة الوصل الأهم بين مصر والعالم.
لكن هذا الشريان أصيب بالشلل جزئيًا، بعد حريق شب فيه مؤخرًا، كشف حجم الاعتماد على المبنى، ومحدودية البدائل، وأعاد إلى الأذهان لحظة انطلاق أول مكالمة هاتفية ملكية من داخله قبل قرابة مئة عام.
مكالمة فؤاد الأول.. بداية الأسطورة
في يوم 25 مايو 1927، أجرى الملك فؤاد الأول أول مكالمة هاتفية من داخل ما كان يُعرف آنذاك بـ"دار التليفونات الجديدة" بشارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا). استخدم الملك سماعة هاتف فضية الصنع من نوع "إريكسون" السويدية، نُقش عليها لاحقًا: "الجهاز الذي تفضل فؤاد الأول ملك مصر وافتتح به سنترال تليفون المدينة بالقاهرة".
تلك اللحظة لم تكن مجرد تدشين لمبنى، بل انطلاقة لعصر جديد من الاتصال في مصر، تبلورت خلاله الهوية التقنية للدولة، وتحوّل المبنى مع الزمن إلى نقطة ارتكاز رئيسية لشبكات الهاتف والإنترنت.
قلب الاتصالات.. أكثر من مجرد مبنى
لا يدرك كثيرون أن المبنى المكون من 10 طوابق ليس مجرد تجمع مكاتب، بل مركز معلوماتي وبياني يعج بوحدات استضافة بيانات، وشبكات ألياف ضوئية إقليمية ودولية تمر عبره.
ووفق المهندس مجدي الهنداوي، الخبير بالجهاز القومي للاتصالات، فإن سنترال رمسيس هو "القلب النابض لشبكة الاتصالات القومية" في مصر، ويُعدّ واحدًا من أكبر غرف الربط البيني (Interconnection Rooms) التي تعتمد عليها شركات الاتصالات الخاصة والدولية.
الهنداوي أضاف أن نحو 50% من حركة الاتصالات المحلية والدولية تمر عبر هذا المبنى، وأن دوره يتجاوز الحدود الجغرافية للقاهرة، إذ يربطها بكافة المدن، ويوفر شبكات الربط والاتصال لبنى تحتية حكومية، وشركات مالية، ومؤسسات تعليمية، وصولًا إلى خدمات الحوسبة السحابية والأرشفة المؤسسية.
هشاشة مركزة.. وتحذيرات من كارثة مستقبلية
رغم هذا الثقل الاستراتيجي، فإن بعض مسؤولي شركات الاتصالات يرون أن هذه "المركزية المفرطة" كانت خطأ كبيرًا. مسؤول في شركة "أورانج" – رفض الإفصاح عن اسمه – صرّح بأن تركيز كل هذه المهام الحيوية في مبنى واحد يشكل "نقطة ضعف استراتيجية"، لا سيما في ظل التهديدات المناخية وغياب خطط التأمين المتقدمة.
ويحذّر خبراء من أن الحريق الأخير الذي ضرب المبنى لا يجب أن يُنظر إليه باعتباره حادثًا معزولًا، بل ناقوس خطر يستدعي مراجعة شاملة لبنية الاتصالات في مصر، وإعادة توزيع مراكز البيانات والخوادم الحيوية لتفادي "شلل رقمي" وطني في حال وقوع حوادث مشابهة.
شريان اقتصادي ومصدر للعملة الصعبة
إضافة إلى الدور الفني، يشكل السنترال رافدًا اقتصاديًا ضخمًا. فوفق تقديرات رسمية، يوفر المبنى دخلًا سنويًا يتجاوز 200 مليون دولار من خلال خدمات تمرير المكالمات والبيانات التي تقدمها الشركة المصرية للاتصالات لشركات عالمية، اعتمادًا على موقع مصر الجغرافي كبوابة بين آسيا وأوروبا.
كما يحتضن سنترال رمسيس "نقطة تبادل الإنترنت" في القاهرة، والتي تعد من أكبر نقاط تبادل البيانات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تتيح الاتصال المباشر بين مزودي خدمة الإنترنت المحليين، وتدعم التشغيل الفوري للخدمات الرقمية في جميع القطاعات.
من الماضي إلى المستقبل.. هل يتحول إلى مركز بيانات وطني؟
كان المبنى على أعتاب تحول نوعي نحو مركز بيانات متقدم (Data Center) يخدم الخطة الحكومية للتحول الرقمي، بحسب الجهاز القومي للاتصالات. الخطط شملت تحديث الوحدات واستضافة مزيد من خدمات التخزين السحابي، وربط المؤسسات الحكومية بالبنية الرقمية للدولة.
لكن الحريق الأخير قد يُعطل هذا المسار أو يُسرّعه، بعدما أظهر الحاجة الملحة لإعادة تأهيل البنية التحتية، وتوزيع الأعباء التقنية على أكثر من موقع، وإنشاء نسخ احتياطية فورية وشاملة في مواقع بديلة.