في مشهد بات مألوفًا، تتكرر وقائع غياب وزراء حكومة مصطفى مدبولي عن حضور جلسات مجلس النواب المصري، وسط تبريرات واهية وتجاهل واضح لصوت "البرلمان"، الذي من المفترض أن يمارس دوره الرقابي على السلطة التنفيذية، لكن في مصر السيسي، تبدو المؤسسات الدستورية وكأنها مجرد ديكور ديمقراطي بلا فعالية حقيقية، ففي أقل من عام، غاب أكثر من 11 وزيرًا عن جلسات تم استدعاؤهم إليها، بحسب تقارير برلمانية، دون محاسبة أو حتى اعتذار رسمي.

 

البرلمان.. مؤسسة شكلية في دولة العسكر

منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، تحول البرلمان المصري إلى مجرد أداة تصفيق وإقرار لقرارات السلطة التنفيذية، تم تفصيل قوانين الانتخابات لتفرز برلمانًا خاليًا من المعارضة الحقيقية، حيث استحوذت أحزاب مثل "مستقبل وطن" الموالية للنظام على الأغلبية المطلقة.

في هذا السياق، يصبح من غير المستغرب أن يتجاهل الوزراء الحضور، لأنهم لا يشعرون أن هناك مساءلة حقيقية، بل يعرفون أنهم محصنون طالما يرضى عنهم الجنرال الحاكم.

 

وقائع الغياب المتكررة.. أرقام تكشف الاستخفاف

في مارس 2024، امتنع وزير التموين عن الحضور رغم استدعائه ثلاث مرات متتالية لمناقشة أزمة الأسعار والسلع التموينية.

وفي يونيو 2025، تجاهلت وزيرة البيئة حضور جلسة مخصصة لمناقشة الكارثة البيئية في أسوان، في ظل انتشار سحب الدخان السام، ما أثار غضب بعض النواب الذين وصفوا تصرفها بـ"المهين للبرلمان والشعب".

كما لم يحضر وزير التربية والتعليم أكثر من خمس جلسات مخصصة لمناقشة انهيار مستوى التعليم العام، وهو ما اعتبره برلمانيون محاولة متعمدة للهروب من المساءلة.

شهد البرلمان في يوليو 2025 مواقف متكررة من غياب أو تأخر وزراء بارزين عن جلسات هامة، مثل وزير الإسكان ووزير التخطيط ووزيرة التخطيط، إضافة إلى وزير النقل كامل الوزير الذي لم يمثل البرلمان حتى الآن رغم وقوع حادث مأساوي في المنوفية راح ضحيته 19 فتاة.

رئيس برلمان الانقلاب حنفي جبالي عبر عن استيائه من هذا الغياب المتكرر، مؤكداً أنه لا يقبل أي عذر، وهو ما يعكس حالة من الاستهتار وعدم الجدية من الحكومة تجاه البرلمان.

رغم الانتقادات المتكررة، لم يصدر أي رد فعل جاد من رئيس البرلمان حنفي جبالي، الذي اكتفى في تصريحاته بالقول إن "الوزراء مشغولون"، متجاهلاً أن وظيفتهم الدستورية تفرض عليهم المثول أمام النواب.

وعلى الجانب الآخر، صرّح النائب ضياء الدين داود (أحد الأصوات النادرة غير الموالية للنظام) في أبريل 2025 قائلاً: "الحكومة تدير الدولة باعتبارها عزبة، لا ترى في البرلمان سوى قاعة لإملاء القرارات"، تصريحات من هذا النوع تُقابل بالتجاهل أو القمع، ما يكرّس واقعًا مغلقًا تتحكم فيه السلطة دون أي رقابة فعالة.

 

لماذا لا يخشى الوزراء من المحاسبة؟

في ظل غياب استقلال القضاء، ووجود إعلام موجه، وافتقار البرلمان لأدوات الضغط الحقيقية، أصبح الوزراء في أمان تام من أي تبعات سياسية لتقاعسهم أو فسادهم، ففي دولة تدار بالأوامر، لا يجرؤ نائب على تقديم استجواب حقيقي دون ضوء أخضر من الأجهزة الأمنية،

وقد أظهرت وثائق مسرّبة في 2022 أن بعض الجلسات يتم تحديد محتواها بالتنسيق مع جهاز الأمن الوطني قبل انعقادها، هذه السيطرة المحكمة تضع البرلمان في خانة التابع، لا الرقيب.

تتعدد الأسباب التي تدفع وزراء حكومة مصطفى مدبولي إلى تجنب المثول أمام البرلمان بشكل متكرر، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:

  • هيمنة النظام العسكري وضعف الرقابة البرلمانية: النظام السياسي في مصر تحت حكم عبد الفتاح السيسي يُعتبر انقلابًا عسكريًا يسيطر على مؤسسات الدولة، بما فيها البرلمان، الذي غالبًا ما يكون أداة لتثبيت قرارات السلطة التنفيذية دون مساءلة حقيقية.

هذا يخلق بيئة غير محفزة للوزراء للمثول أمام البرلمان بجدية، إذ لا يخشون عواقب الغياب أو التجاهل.

  • عدم رغبة الوزراء في مواجهة الأسئلة الصعبة: بعض الوزراء يفتقرون إلى الاستعداد أو الرغبة في مواجهة استجوابات النواب، خصوصًا في ظل القضايا الحساسة أو الفشل الإداري، مثل حادث المنوفية أو الجدل حول شهادات بعض الوزراء.

هذا يدفعهم إلى التغيب أو التأخر لتجنب المواجهة المباشرة.

  • ضعف آليات المساءلة والشفافية: رغم تصريحات رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي التي تؤكد حرص الحكومة على المساءلة والشفافية، فإن الواقع يشير إلى ضعف في تطبيق هذه المبادئ، وعدم وجود نظام فعال يفرض حضور الوزراء بانتظام أو يعاقب الغياب، مما يتيح لهم التجاهل دون تبعات.
  • التركيز على تنفيذ توجيهات السلطة التنفيذية بدلاً من الاستجابة للبرلمان: الحكومة تركز على تنفيذ برنامجها وفق توجيهات السيسي، وتعتبر البرلمان جهة شكلية تمنح الثقة فقط، وليس منصة حقيقية لمساءلة الحكومة، ما يجعل الوزراء أقل اهتمامًا بحضور جلسات البرلمان.
  • الضغوط والتحديات الاقتصادية والاجتماعية: في ظل الأزمات الاقتصادية المتفاقمة وارتفاع الأسعار، يفضل بعض الوزراء تجنب النقاشات البرلمانية التي قد تفضح ضعف الأداء أو تسبب إحراجًا سياسيًا، لذا يتجنبون المثول أمام النواب.

باختصار، تتداخل عوامل سياسية مؤسسية مع عوامل شخصية وإدارية تجعل وزراء مدبولي يتجنبون المثول أمام البرلمان، مما يعكس أزمة أعمق في طبيعة الحكم والرقابة في مصر.

الغياب المتكرر للوزراء عن جلسات البرلمان ليس مجرد سلوك إداري، بل مؤشر خطير على غياب الحياة السياسية الحقيقية في مصر، فالشعب الذي من المفترض أن يمثله النواب بات بلا صوت، والوزراء الذين يُفترض أنهم خدام لهذا الشعب يتعاملون مع مؤسسات الدولة بتعالٍ واستخفاف.

في ظل هذا الوضع، تستمر الدائرة المغلقة، حكومة لا تُحاسب، وبرلمان لا يُحترم، وشعب يتحمل الفشل والفساد دون أن يجد من يمثله بحق.