في مشهد مروّع يعكس حجم الإهمال وغياب التخطيط، قُتلت 19 فتاة في حادث دموي على الطريق الإقليمي الدائري، أثناء عودتهن من العمل بمزارع العنب في إحدى الضواحي القريبة من القاهرة. فتيات في عمر الزهور، بينهن طالبات بكليات الهندسة والآداب والتمريض، وأخرى كانت تستعد لزفافها، لقين مصرعهن في طريق يفترض أن يكون من "منجزات الجمهورية الجديدة".
الحادث لم يكن الأول، وربما لن يكون الأخير، على طريق وصفه المواطنين عبر مواقع التواصل بـ"طريق الموت"، وهو أحد المشروعات التي أُنجزت بضغط مباشر من عبد الفتاح السيسي، ضمن نهج الإسناد بالأمر المباشر، دون مناقصات أو دراسات وافية.
مشروع وُلد على الهواء
في 9 سبتمبر 2018، افتتح السيسي المرحلة الأخيرة من الطريق الإقليمي الدائري، الممتد بطول 400 كيلومتر، بتكلفة بلغت 9 مليارات جنيه. المشروع جاء استجابة لتوجيهات رئاسية أُعلنت في يوليو 2017، لسرعة الانتهاء من المحاور والطرق، دون انتظار خطط هندسية مدروسة أو جدوى اقتصادية واضحة.
وقد شاركت في تنفيذه جهات عسكرية ومدنية، بينها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ووزارة الإنتاج الحربي، وتولت إدارته بعد الافتتاح "الشركة الوطنية للطرق" التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للجيش، التي فرضت رسوم عبور تتراوح بين 10 و25 جنيها حسب نوع المركبة، تحت بند "صيانة الطريق".
لكن الطريق لم يصمد طويلًا. إذ انهار جزء كبير من القوس الشمالي بين بلبيس وبنها، بعد أقل من عامين على افتتاحه، بسبب تنفيذه فوق أراضٍ زراعية وردم الرمال والطفلة بارتفاع 3 أمتار، وبطبقات رصف لا تفي بأدنى معايير الجودة، وفق ما أكده مهندسون محليون.
ضحايا بالجملة.. والمحاسبة غائبة
بحسب تقارير رسمية، شهد الطريق الإقليمي نحو 63 حادث تصادم أسفر عن مقتل 116 مواطنًا، وإصابة 470 آخرين، فيما يؤكد الأهالي أن أكثر الحوادث وقعت في القوس الذي نُفّذ في عهد السيسي، بينما بقي القوس الجنوبي الذي افتُتح في عهد مرسي، أكثر أمانًا.
في المقابل، لا أحد من المسؤولين تمت مساءلته، رغم شكاوى الأهالي والمكاتبات التي أُرسلت لوزارة النقل، لتدارك التصدعات والحفر والانهيارات المتكررة، خاصة بمحافظات الشرقية والمنوفية والجيزة، التي تصدرت مشهد الحوادث.
وزير النقل الحالي، كامل الوزير، لم يُخفِ أن عدد ضحايا الطرق في مصر خلال عام 2024 فقط بلغ 5260 حالة وفاة و76 ألف إصابة، رغم إنفاق 530 مليار جنيه على مشروعات الطرق والكباري خلال العقد الماضي، منها 175 مليارا على المشروع القومي للطرق.
من "الحاج سعيد" إلى "التفريعة" والعاصمة.. نهج واحد
ما حدث على الطريق الإقليمي ليس حادثًا منفصلًا، بل يأتي ضمن نهج مستمر من القرارات الرئاسية المرتجلة، والإسناد المباشر لمشروعات قومية بدون دراسات أو مناقصات.
نهجٌ وثقته الكاميرات خلال افتتاحات رسمية، مثل مطالبة السيسي في ديسمبر 2021 مقاولًا يُدعى "الحاج سعيد" ببناء كوبري خلال عام مقابل 25% فقط من التكلفة، ورضوخ الوزير لخفض مليارات من ميزانية المشروع خلال دقائق.
هذه الطريقة في إدارة المشاريع لم تقتصر على الطرق، بل شملت أيضًا:
تفريعة قناة السويس (2015): كلفت 64 مليار جنيه (8 مليارات دولار) دون دراسة جدوى، ولم تحقق الدخل الموعود بـ100 مليار سنويًا، ما دفع مصر للاقتراض من صندوق النقد الدولي بعد عام فقط.
العاصمة الإدارية والعلمين والقطار الكهربائي والمونوريل: مشروعات عملاقة كلفت مئات المليارات، وأُسند تنفيذها بشكل واسع للهيئة الهندسية للقوات المسلحة دون شفافية أو منافسة، ما تسبب في تراكم ديون وصلت لـ40 مليار دولار على شركة العاصمة الإدارية، وفق "نيويورك تايمز".
موازنة على حافة الإفلاس
وفق مشروع موازنة 2025/2026، ستدفع مصر 4382.6 مليار جنيه لسداد فوائد وأقساط ديون، ما يمثل نحو 65% من إجمالي استخدامات الدولة، بسبب سياسة الاقتراض المفرطة لتمويل مشروعات "الافتتاحات المتلفزة".
الخبير الاقتصادي ممدوح الولي علّق على الحادث قائلا إن "إسناد المشروعات بالأمر المباشر يؤدي إلى تنفيذ طرق رديئة، مثل الطريق الإقليمي، الذي أقيم على أرض زراعية، دون دكّ الرمال بالشكل المطلوب، ما جعله يتفتت كالبسكويت بعد أول أمطار".
وأكد أن هذا النهج "يخالف قانون المناقصات الذي يوجب الشفافية والعرض الفني والمالي، لكن السيسي فضّل منطق السرعة والاستعراض، على حساب الأرواح والمصلحة الاقتصادية".
"الجباية والموت".. طريق بنكهة الكبريت
المحلل السياسي أحمد حسن بكر وصف الطرق الجديدة بأنها "في صلابة البسكويت"، مشيرًا إلى أن طبقة الأسفلت غير مطابقة للمواصفات وتحتوي على نسب عالية من الكبريت، ما يجعلها تتشقق بفعل المطر أو حرارة الشمس.
وأضاف أن الجهات التي يُفترض أن تراقب جودة الطرق والسلامة المرورية، تتقاعس عن أداء دورها، في ظل غياب المحاسبة، وتوزيع دماء الضحايا على أكثر من جهة: من أمر بالتنفيذ، ومن نفّذ بدون مواصفات، ومن تقاعس عن الرقابة.