كشف تقرير "بارومتر الأعمال" الصادر عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية عن مؤشرات صادمة لحال مناخ الاستثمار في البلاد، خلال الربع الأول من عام 2025، حيث بات المستثمرون المحليون والأجانب يواجهون ثلاثية قاتلة: تضخم جامح، تذبذب حاد في سعر الصرف، وفوضى ضريبية عشوائية، جعلت من بيئة الأعمال في مصر طاردة وليست جاذبة، في ظل أزمات متشابكة تعصف بالاقتصاد المصري.

 

التضخم: العدو الأول للاستثمار
التقرير، الذي شارك في إعداده كبار المستثمرين وخبراء اقتصاديون، وضع التضخم في صدارة المخاطر التي تهدد بيئة الأعمال، باعتباره الخطر الأكثر تأثيراً على قدرة الشركات على التخطيط والتوسع. فقد أدى الارتفاع المستمر في الأسعار إلى تآكل القوة الشرائية للمستهلك، وزيادة تكاليف الإنتاج، وتعطيل خطط التوسع والتوظيف.

ورغم أن التضخم أصبح أزمة عالمية شهدتها دول مثل تركيا والأرجنتين وحتى ألمانيا، إلا أن تأثيره في مصر تفاقم بسبب أزمة سعر الصرف وتقييد الواردات، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج وفقدان الشركات القدرة على ضبط أسعار منتجاتها أو توقيع عقود طويلة الأجل.

 

تقلبات الجنيه: ضبابية مستقبلية وتوقف الاستثمارات
في المرتبة الثانية ضمن مخاطر الاستثمار، جاءت تقلبات الجنيه المصري، والتي وصفت في التقرير بأنها شديدة التعقيد. فالتغيرات المتكررة وغير الشفافة في سعر الصرف خلقت حالة من الغموض دفعت العديد من الشركات إلى وقف استثمارات كانت في طور الإعداد، كما جعلت من المستحيل التنبؤ بتكلفة الاستيراد أو توقيت الإفراج الجمركي.

وأشار التقرير إلى أن إدارة الدولة لسعر الصرف دون شفافية على مدار سنوات، خلقت فجوة واسعة بين السوق الرسمية والموازية، ما عزز المضاربات وأفقد المستثمرين الثقة في استقرار الاقتصاد، بعكس دول أخرى في المنطقة تواجه ضغوطاً مشابهة ولكن بسياسات واضحة ومعلنة.

 

فوضى الضرائب: شبح التقديرات العشوائية يطارد المستثمرين
أما الضرائب العشوائية فكانت ثالث أعمدة الأزمة، إذ أشار التقرير إلى أن رجال الأعمال باتوا يواجهون "تقديرات غير دقيقة" و"مطالبات بأثر رجعي" تؤدي إلى حالة من انعدام اليقين، وتدفع بالشركات إلى الهروب من الاقتصاد الرسمي أو الانكماش. وبخلاف ما يجري في دول أخرى تعتبر الضرائب وسيلة دعم وتحفيز للقطاع الإنتاجي، فإن السياسة الضريبية في مصر تبدو أقرب إلى أداة رقابة وعقاب، بحسب توصيف التقرير.

وأعرب ممثلو القطاع الخاص عن تذمرهم من غياب أي شراكة حقيقية في صياغة السياسات الاقتصادية، في ظل بيئة بيروقراطية مرهقة، تتسم بتعدد الجهات، وبطء إصدار التراخيص، وغياب الربط الإلكتروني بين المؤسسات الحكومية، مما أجهض أي إمكانية لتحسين بيئة الأعمال في الأجل القصير.

 

هروب "المليونيرات" وغياب الثقة في السياسات
التقرير يتقاطع مع تقارير دولية أخرى صدرت مؤخرًا، وأشارت إلى تصاعد وتيرة هجرة الأثرياء من مصر بحثاً عن ملاذات آمنة لرؤوس أموالهم. وبينما تتحمل الشركات أعباء قرارات اقتصادية لا تُشارك في صناعتها، تتعمق أزمة الثقة بين الحكومة والقطاع الخاص.

أحمد خطاب، عضو مجلس الأعمال المصري الكندي، وصف الأزمة بأنها متعددة الجوانب، مشيراً إلى أن التضخم وتقلبات العملات هي ظواهر عالمية، ولكن الخطورة تكمن في "غياب الأولويات" في الإدارة المصرية، والتدخل الحكومي المباشر في النشاط الاقتصادي، بما يشبه ما يقوم به بعض القادة في الخارج، مثل تدخلات ترامب في السياسة النقدية الأميركية.

وأوضح خطاب أن المستثمرين، خصوصاً في ظل توقف التعيينات الحكومية واشتراطات صندوق النقد الدولي، هم الجهة الوحيدة القادرة على استيعاب ملايين العاطلين عن العمل، وبالتالي لا بد من منحهم الثقة وإشراكهم في صناعة القرارات.

 

البيروقراطية والجمود الإداري: كوابيس يومية
من بين أبرز المعوقات الأخرى التي يرصدها التقرير، الروتين الإداري والبنية التحتية المتدهورة، بما يشمل ضعف البنية اللوجستية، وتعطّل الإفراج الجمركي، وغياب التنسيق بين الجهات الحكومية. هذه المعوقات جعلت من الاستثمار في مصر محفوفاً بالمخاطر، مقارنة بدول مثل المغرب والهند، التي نجحت في وضع سياسات صناعية واضحة ومستقرة.

وفي الوقت الذي تطالب فيه الشركات بتبسيط الإجراءات، وتثبيت السياسة النقدية، وإعادة هيكلة النظام الضريبي، لا تزال الحكومة تتعامل مع الحوار الاقتصادي على أنه مناسبة شكلية، لا تؤثر فعلياً على السياسات أو القوانين، بحسب ما ورد في التقرير.

 

دولة منافسة لا منظمة
من بين أبرز النقاط التي يثيرها التقرير، هو ازدواجية دور الدولة، التي لا تكتفي بوضع السياسات، بل تنافس القطاع الخاص عبر شركات مملوكة للأجهزة السيادية، ما يخلق بيئة غير متكافئة، ويُفقد السوق مبدأ الحياد.