تشهد محافظة أسوان في جنوب مصر منذ أسابيع تصاعد سحب كثيفة من الدخان، تسببت في قلق واسع بين المواطنين، خصوصًا سكان المناطق القريبة من مصانع الأسمدة، وتداول رواد مواقع التواصل صورًا ومقاطع فيديو تظهر غيوماً رمادية خانقة تغلف سماء المدينة، ما أثار تساؤلات عن مصدر هذا التلوث، وسط تجاهل رسمي واضح للأزمة المتفاقمة.

 

الاتهامات موجهة لمصانع الأسمدة..

تشير شهادات عدد من أهالي المنطقة ومصادر بيئية محلية إلى أن مصانع الأسمدة القريبة من المدينة، وخاصة تلك الواقعة في منطقة كيما بأسوان، يُشتبه في كونها المصدر الرئيسي لانبعاثات الدخان، هذه المصانع لطالما كانت محل انتقادات بسبب التلوث الذي تخلفه، وتعد من الصناعات التي تنتج انبعاثات سامة تحتوي على أكاسيد النيتروجين والكبريت، والأمونيا، والجسيمات الدقيقة الخطرة على الجهاز التنفسي.

أهالي أسوان يعبرون عن استيائهم من تعامل النظام بقيادة السيسي مع الأزمة، معتبرين أن الحكومة تتجاهل المخاطر البيئية والصحية التي تسببها المصانع، وأنها تفتقر للشفافية والجدية في معالجة المشكلة.

هناك اتهامات ضمنية بتقصير الأجهزة الرقابية وعدم محاسبة المسؤولين عن التلوث، مما يعكس فشل النظام في حماية المواطنين من الأضرار البيئية والصحية.

بعض التقارير تشير إلى أن النظام يركز جهوده الأمنية على قضايا سياسية ويغفل عن القضايا البيئية والاجتماعية الخطيرة التي تؤثر على حياة الناس، كما هو الحال في أزمة المخدرات وانتشارها في أسوان، مما يزيد من حالة الانفلات الأمني والاجتماعي

 

أزمة متكررة.. والتعتيم مستمر

ليست هذه المرة الأولى التي يعاني فيها الأهالي من أدخنة المصانع، فقد تم تسجيل حالات مشابهة في أعوام سابقة دون أن تُتخذ إجراءات حاسمة، ففي عام 2020، خرجت شكاوى من سكان منطقتي المحمودية والصداقة الجديدة حول الروائح الخانقة التي تصدر ليلاً من مصانع "كيما"، لكن حكومة السيسي وممثلي وزارة البيئة اكتفوا ببيانات سطحية دون إجراء تقارير شفافة أو محاسبة للمسؤولين.

 

المواد السامة تسبب أمراضًا خطيرة

الخبير البيئي الدكتور مجدي علام صرّح سابقًا أن مصانع الأسمدة في مصر، خصوصًا التي لم تُحدث تقنياتها منذ عقود، تُعد مصدرًا أساسيًا لانبعاث غازات شديدة السمية تؤثر على صحة الإنسان وتسبب أمراضًا مثل الربو والتهابات الشعب الهوائية والسرطان على المدى الطويل، كما أشار تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن منطقة أسوان بحاجة لرقابة بيئية صارمة، وأن "مصانع كيما تنفث الموت في صمت".

في الوقت الذي يتصاعد فيه الغضب الشعبي، تلتزم حكومة السيسي الصمت المريب، في تجاهل واضح لمعاناة المواطنين، لم تصدر وزارة البيئة أو الصحة أي تقارير ميدانية، كما لم تُعلن أي نتائج قياسات للهواء.

النائب السابق هيثم الحريري انتقد هذا التواطؤ، متهمًا الدولة بالتقاعس المتعمد عن محاسبة المصانع الملوثة بسبب علاقات المصالح والاستثمار.

 

من يحمي أسوان؟

يعيش الأهالي في خوف دائم من استنشاق هواء ملوث دون حماية أو علاج، في ظل انهيار النظام الصحي في جنوب مصر.

وقد أكدت تقارير حقوقية أن نسبة الإصابة بأمراض التنفس لدى أطفال أسوان ارتفعت بنسبة 27% خلال الأعوام الثلاثة الماضية.

كما يعاني كبار السن من تفاقم الأمراض المزمنة المرتبطة بتلوث الهواء، في وقت تغيب فيه التغطية الإعلامية الحقيقية بسبب القيود المفروضة على الصحافة المستقلة.

 

لماذا تتجاهل الحكومة مخاطر مصانع الأسمدة على البيئة والصحة؟!

تتجاهل حكومة الانقلاب المصري مخاطر مصانع الأسمدة على البيئة والصحة لعدة أسباب هيكلية وسياسية واقتصادية، يمكن تلخيصها كالتالي:

  • الأولوية الاقتصادية والتنموية على حساب البيئة: في البلدان النامية، بما في ذلك مصر، تُعتبر الصناعة والتصنيع محركًا أساسيًا للنمو الاقتصادي، وغالبًا ما تُقدم الأولوية للإنتاج والتوسع الصناعي على حساب حماية البيئة والصحة العامة.

الاستثمار في السيطرة على التلوث يُنظر إليه أحيانًا كتكلفة غير منتجة تقلل من العائد المالي المباشر للشركات، مما يدفع إلى تقليل الإنفاق على تدابير الحماية البيئية.

  • ضعف تطبيق القوانين والمعايير البيئية: هناك معايير بيئية غالبًا ما تكون غير مناسبة أو غير مطبقة بفعالية، إضافة إلى نقص الكوادر الفنية المؤهلة، مما يؤدي إلى تدهور الوضع البيئي بسبب التلوث الصناعي، خصوصًا في المصانع التي تعمل بتقنيات قديمة أو غير مراقبة بشكل كافٍ.
  • تجاهل دراسات الجدوى والتقييم البيئي: قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي قلل علنًا من أهمية دراسات الجدوى، بما في ذلك دراسات تقييم الأثر البيئي، معتبرًا أن الالتزام بها يبطئ تنفيذ المشروعات الكبرى.

هذا الموقف يقلل من فرص دمج الاعتبارات البيئية في مراحل التخطيط والتنفيذ، مما يزيد من احتمالات حدوث أضرار بيئية خطيرة.

  • السرية والافتقار للشفافية: المؤسسات الحكومية، خاصة العسكرية، تتمتع بحصانة من الإفصاح عن بياناتها ومشروعاتها، بحجة الأمن القومي، مما يمنع النقاش العام والمساءلة بشأن الأضرار البيئية المحتملة لمشروعاتها، بما في ذلك مصانع الأسمدة.
  • ضعف ضغط المجتمع المدني: رغم وجود بعض الحراك البيئي، فإن القيود المفروضة على المجتمع المدني واعتبار بعض القضايا البيئية "خطوطًا حمراء" تحد من قدرة المواطنين والناشطين على الضغط من أجل حماية البيئة والصحة العامة.
  • التأثيرات الصحية والبيئية لمصانع الأسمدة: مصانع الأسمدة، خاصة الفوسفاتية والنتروجينية، تنتج ملوثات هوائية ومائية وتربة تؤثر سلبًا على صحة السكان، مثل تلوث المياه الجوفية بالنترات، وانبعاث غازات ضارة، مما يسبب أمراضًا متعددة، لكن هذه المخاطر غالبًا ما تُغفل أو تُقلل من قبل الجهات الرسمية.

بالتالي، فإن تجاهل الحكومة لمخاطر مصانع الأسمدة يعود إلى مزيج من الأولويات الاقتصادية على البيئة، ضعف التطبيق والرقابة، تقليل أهمية الدراسات البيئية، التكتم الحكومي، وضعف المجتمع المدني، مما يجعل حماية البيئة والصحة العامة أقل أولوية مقارنة بالتنمية السريعة والمشروعات الكبرى تحت قيادة النظام الحالي.

أزمة دخان أسوان ليست حدثًا عرضيًا، بل نتيجة مباشرة لغياب الشفافية، وغياب الرقابة، والتواطؤ الرسمي في عهد السيسي مع شبكات الفساد الصناعي، وبينما يموت المواطنون ببطء، تبقى الحكومة منشغلة بالدعاية والاستثمار، غير مبالية بصحة الشعب أو البيئة.