في مشهد نادر من البهجة الشعبية، اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر خلال يونيو 2025 موجة من المقاطع التي توثق تجربة "الكركم المضيء"، وهي تفاعل كيميائي بسيط يحدث عند خلط الكركم بصابون الغسيل، فيعطي لونًا مشرقًا أقرب إلى التوهج، خاصة عند تسليط ضوء فلاش الهاتف عليه.

لكن ما لبث هذا "الترند" المسالم أن تحوّل إلى مادة رسمية للتحذير والقمع، بعدما خرجت تصريحات متكررة من وزارات الري والبيئة والتعليم، تحذر من "تهديد الأمن المائي" و"إهدار الموارد"، بل وتصف المشاركين في التجربة بأنهم "يخربون وعي الأجيال"!
 

قمع البهجة.. كيمياء المتعة تواجه الأمن القومي
   
وزارة الري بحكومة الانقلاب سارعت إلى إصدار بيان رسمي في 24 يونيو 2025، أكدت فيه أن استخدام مياه الشرب في "تجارب غير مفيدة" قد يمثل خطرًا على الموارد المائية، في وقت تعاني فيه البلاد من عجز مائي يتجاوز 30 مليار متر مكعب سنويًا، وفق تصريحات سابقة لوزير الري محمد عبد العاطي.

كما حذّرت وزارة البيئة من "مخاطر استخدام الصابون والكركم على المياه الجوفية"، رغم أن غالبية التجارب تتم داخل المنازل في أوانٍ صغيرة، ما أثار سخرية واسعة على مواقع التواصل.
 

السلطة تعادي الفرح وتفتعل الأزمات
   
يرى الدكتور محمد فوزي، أستاذ الكيمياء بجامعة المنصورة، أن التركيبة المستخدمة في "ترند الكركم" غير ضارة على الإطلاق، مشيرًا إلى أن كمية الماء المستخدمة لا تكفي لري نبتة واحدة ويضيف:

"لو كانت الدولة حريصة فعلًا على المياه، لوفّرت مليارات الأمتار المهدرة في زراعة ملاعب الجولف، أو مشروعات العاصمة الإدارية التي تستهلك وحدها أكثر من 800 ألف متر مكعب من المياه يوميًا."

من جهتها، قالت الدكتورة ليلى عبد السلام، الباحثة في العلوم الاجتماعية، إن الحملة الرسمية تعكس "قلقًا سلطويًا من أي تعبير شعبي تلقائي عن الفرح أو الفضول المعرفي"، مشيرة إلى أن النظام العسكري يرى في كل حراك اجتماعي تهديدًا محتملاً، حتى وإن كان مجرد تجربة مدرسية في مطبخ صغير.
 

غياب الأولويات.. والأمن المائي في مهب الريح
   
وبينما تحذر الحكومة من "قطرة ماء في كوب كركم"، تتجاهل السلطة أسباب العجز المائي الحقيقي، وعلى رأسها أزمة سد النهضة الإثيوبي، التي فشلت القاهرة في إدارتها سياسيًا وقانونيًا، ما أدى إلى فقدان أكثر من 10 مليارات متر مكعب سنويًا منذ بدء الملء الأول في 2020، بحسب تقرير لمعهد ستراتفور الأمريكي.

وفي السياق ذاته، تُصر الحكومة على الاستمرار في مشروعات عقارية غير مستدامة، مثل مدينة العلمين والعاصمة الجديدة، التي تعتمد على تحلية المياه المكلفة، وتُخصّص لها أولوية في التمويل والمياه على حساب محافظات الصعيد والدلتا.
 

تكميم الفرح.. سياق أوسع من القمع
   
تأتي هذه الحملة ضد "ترند الكركم" ضمن سلسلة من الإجراءات الحكومية التي استهدفت أشكال التعبير غير السياسي، من منع عروض غنائية أو فنية، إلى التضييق على منصات التواصل، في محاولة لفرض "الجدية القسرية" على مجتمع يعاني من أزمات اقتصادية متفاقمة، حيث تجاوز معدل التضخم 30 %  خلال النصف الأول من 2025، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
 

القمع البيئي نموذج مصغّر لقمع سياسي أوسع
   
يشير تقرير صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" في أبريل 2025، إلى أن حكومة السيسي تستخدم قضايا مثل الأمن المائي والبيئي كذريعة لتوسيع أدوات الرقابة والسيطرة المجتمعية، عبر شيطنة سلوكيات بسيطة، والتهديد بعقوبات لمن يخرج عن "السلوك الرسمي المقبول".

فمن تجربة علمية بسيطة ومسلية، صنعتها طفولة حائرة في ظل غياب حقيقي للتعليم الجيد والترفيه الآمن، اختارت حكومة الانقلاب أن تحوّل "ترند الكركم المضيء" إلى قضية أمن قومي، لكن الحقيقة الأعمق تكشف أن ما يهدد الأمن المائي ليس فضول الأطفال، بل فشل الإدارة، وهدر الموارد، وتغليب البروباغندا على العلم، وفي دولة يعاقب فيها الفرح، لا يُستغرب أن يُلاحق الكركم، ويُراقب الضحك، وتُحاصر التجارب.