في مشهد دبلوماسي متكرر دون مردود ملموس، عقد وزير الخارجية والهجرة في حكومة الانقلاب، بدر عبد العاطي، سلسلة لقاءات مع وزراء خارجية عدة دول أفريقية، من بينها تشاد، وجامبيا، والغابون، والصومال، وتونس، وجيبوتي، وذلك في إطار ما وصفته الوزارة بـ"تعزيز العلاقات الثنائية والتعاون المشترك".

غير أن سياسيين وأكاديميين يرون في هذه اللقاءات تكرارًا لسياسات شكلية لا تعكس تحركًا حقيقيًا على مستوى السياسة الخارجية المصرية، بل تؤكد استمرار حالة التراجع والانكماش الاستراتيجي الذي تعيشه مصر في عهد عبد الفتاح السيسي.

دبلوماسية بلا نفوذ

منذ الانقلاب العسكري في 2013، تراجعت مكانة مصر الإقليمية بشكل غير مسبوق، إذ فقدت دورها الفاعل في ملفات القارة الأفريقية، سواء في أزمات الساحل والصحراء، أو في ملف سد النهضة الإثيوبي الذي شكّل أحد أكبر الإخفاقات الاستراتيجية.

ورغم عشرات اللقاءات المماثلة، لم تستطع مصر وقف بناء السد أو التأثير الفعلي على الموقف الإثيوبي، مما انعكس على الأمن المائي القومي.

يقول الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة: "هذه اللقاءات المتكررة مع الدول الأفريقية ما هي إلا استعراض دبلوماسي لا يسنده مشروع متكامل أو نفوذ حقيقي. منذ 2014، تراجعت مصر من لاعب مؤثر إلى طرف هامشي في أغلب الملفات الإقليمية".

كما شهدت مصر تراجعًا ملحوظًا في دورها الإقليمي، إذ اتسمت سياسة النظام بالخضوع لرؤية ضيقة تركز على مصالح النظام الداخلي أكثر من المصلحة الوطنية الشاملة.

فقد ارتبطت السياسة الخارجية بالحرص على الحصول على الاعتراف والقبول الدولي، حتى لو كان ذلك على حساب التنازلات الكبيرة، مثل الإنفاق الضخم على صفقات عسكرية وعقود اقتصادية مشكوك في جدواها، ما كلف مصر الكثير من حيث تراجع دورها القيادي في المنطقة.

ويشير الباحثون إلى أن مصر فقدت الكثير من وزنها الإقليمي بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية، وارتباط السياسة الخارجية بصراعات داخلية، بالإضافة إلى تهميش دورها في الملفات الإقليمية الكبرى كالملف الليبي والفلسطيني، حيث لم تعد مصر تلعب دورًا مؤثرًا كما في السابق، بل أصبحت تدور في فلك دول خليجية مانحة أو قوى إقليمية أخرى.

كما أن المواقف المتناقضة للنظام المصري في قضايا مثل اليمن وسوريا وليبيا، وعدم قدرتها على فرض رؤيتها، تؤكد ضعف النفوذ المصري

 

تصريحات متناقضة.. وإعلام مضلل

ما يفاقم الأزمة هو التناقض الصارخ في التصريحات الرسمية والإعلامية، ففي الوقت الذي تصف فيه حكومة الانقلاب هذه اللقاءات بأنها "اختراقات دبلوماسية" و"استعادة لدور مصر"، يعجز الإعلام الرسمي عن تقديم أي دليل ملموس على نتائجها.

بل على العكس، تتزامن هذه اللقاءات مع تصريحات رسمية تُظهر تنازلات واضحة، كما في حالة سد النهضة، حيث أعلن السيسي في 2021 أن "مياه النيل خط أحمر"، ثم عاد ووقّع اتفاقًا ثلاثيًا يُفهم ضمنًا أنه يعترف بالأمر الواقع الإثيوبي.

وفي السياق ذاته، يقول الكاتب الصحفي المعارض سليم عزوز: "الإعلام المصري الرسمي أصبح أداة لتضليل الرأي العام، يروّج لإنجازات غير موجودة، ويُخفي الكوارث الكبرى في إدارة الملفات الخارجية".

 

غياب مشروع سياسي إقليمي

في عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي، رغم قصر الفترة، طرحت مصر مبادرات إقليمية حقيقية، مثل مبادرة حل الأزمة السورية عبر مجموعة الاتصال الرباعية، والتحرك باتجاه عمق أفريقي حقيقي، كما ظهر في زيارة مرسي إلى إثيوبيا ونيجيريا وأوغندا. بينما يفتقر السيسي لأي رؤية واضحة في السياسة الخارجية، ويكتفي بتحركات دبلوماسية شكلية هدفها التغطية على فشل داخلي متراكم.

الناشطة السياسية نيفين ملك، تعلق على ذلك بقولها: دبلوماسية السيسي قائمة على العلاقات الفردية المؤقتة والصفقات الأمنية، وليس على مشروع وطني متكامل يُستند إليه في إفريقيا أو في العالم العربي".

يلاحظ المتابعون أن اللقاءات الأخيرة التي عقدها بدر عبد العاطي لم تحظ بتغطية إعلامية دولية تُذكر، ولم تصدر بيانات مشتركة تُشير إلى نتائج ملموسة، وهذا يعكس التراجع الفعلي لمكانة مصر في القارة، مقارنة بما كانت عليه سابقاً.

وفي هذا السياق، يشير تقرير صادر عن "مجموعة الأزمات الدولية" (International Crisis Group) إلى أن: "السياسة الخارجية المصرية فقدت زخمها منذ 2014، وهي تعتمد الآن على علاقات رمزية وليس على تحالفات فاعلة، خصوصًا في إفريقيا".

في ضوء ما سبق، لا تعدو لقاءات بدر عبد العاطي الأخيرة كونها محاولات لتجميل المشهد الخارجي أمام الداخل المنهك اقتصاديًا وسياسيًا، في وقت يتزايد فيه الاحتقان الشعبي تجاه نظام السيسي، الإعلام الموالي للنظام يستمر في تضليل الشعب عبر الترويج لإنجازات وهمية، في ظل غياب الشفافية والمساءلة.

ويبقى السؤال الحاسم: إلى متى ستظل مصر تكتفي بالتقاط الصور في المحافل الدولية، بينما ينزف دورها الإقليمي وينهار عمقها الأفريقي والعربي تحت سطوة سياسات قمعية، فاشلة في الداخل وعاجزة في الخارج؟