في حادثة ليست الأولى من نوعها، اصطدمت الغطس RED ZED 1 برصيف معدية "القنطرة غرب" في قناة السويس يوم 21 يونيو 2025، مما تسبب في توقف مؤقت لحركة الملاحة قبل أن تتدخل قاطرات الهيئة لإعادة تعويم السفينة وفتح الممر الملاحي من جديد.
وعلى الرغم من إعلان هيئة قناة السويس أن الملاحة عادت "بسرعة"، إلا أن هذه الحادثة تسلط الضوء من جديد على تكرار الحوادث البحرية في واحد من أهم الشرايين الملاحية في العالم، وسط تساؤلات حول كفاءة الإدارة وحقيقة ما يتم إنفاقه من عائدات القناة على تطوير البنية التحتية والسلامة البحرية.
ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها قناة السويس حوادث بحرية مماثلة، فوفقًا لتقرير صادر عن موقع "Maritime Executive"، سجلت القناة أكثر من27 حادثة بحرية بين عامي 2018 و2024، من بينها حادثة جنوح السفينة العملاقة "إيفر غيفن" في مارس 2021، والتي كلفت التجارة العالمية قرابة 9.6 مليار دولار يوميًا من الخسائر خلال فترة توقف القناة.
كما أشار تقرير لمؤسسة "Lloyd’s List Intelligence" إلى أن معدل الحوادث في قناة السويس بلغ نحو3 إلى 4 حوادث سنويًا خلال السنوات الخمس الأخيرة، مما يثير تساؤلات حول مدى فعالية الإدارة الفنية والملاحية لهيئة القناة تحت قيادة النظام الحالي.
رغم هذه الحوادث المتكررة، فإن دخل قناة السويس في ازدياد، فقد صرح رئيس الهيئة أسامة ربيع في فبراير 2024 أن إيرادات القناة في العام المالي 2022/2023 بلغت نحو9.4 مليار دولار، بزيادة أكثر من 40% مقارنة بعام 2020، لكن هذه الأرقام الكبيرة لم تنعكس في صورة تحسينات حقيقية في السلامة أو كفاءة التشغيل، حسب ما يرى عدد من المحللين.
ويعلق الخبير البحري د. هاني البحيري، في تصريح صحفي، قائلاً: "من غير المقبول أن تظل الحوادث تتكرر بهذا الشكل رغم ما يضخ للقناة من دخل، هناك تقصير واضح في تحديث البنية التحتية ونظم الملاحة، إضافة إلى غياب الرقابة الصارمة على حركة السفن".
في كل مرة تقع فيها حادثة، تتسابق وسائل الإعلام المصرية الرسمية لنقل تصريحات تطمينية لا تخلو من التناقض، فعلى سبيل المثال، صرح رئيس هيئة قناة السويس بعد الحادث الأخير بأن "الملاحة لم تتأثر كثيرًا"، بينما نقلت مصادر ملاحية مستقلة أن الحركة تعطلت لأكثر من 4 ساعات، ما أدى إلى تأخير عبور أكثر من 15 سفينة.
كما روجت بعض القنوات الموالية للنظام أن "الأمر طبيعي ويحدث في جميع الممرات المائية"، وهو تبرير اعتبره الأكاديمي الدكتور أشرف دويدار، الأستاذ المشارك بجامعة القاهرة، بأنه "استهانة بعقل المواطن ومحاولة للتغطية على الفشل الإداري المتكرر في إدارة هذا المرفق الاستراتيجي".
الأسباب الحقيقية..
تعود الأسباب الجذرية لهذه الحوادث إلى عوامل متشابكة، أبرزها ضعف الصيانة، نقص الكوادر المدربة، واعتماد الهيئة على قاطرات قديمة لا تواكب المعايير العالمية في الإنقاذ والتعويم.
كما كشفت تقارير صادرة عن "المعهد البحري الدولي" أن مصر لم تنفذ توصيات السلامة الصادرة بعد حادثة "إيفر غيفن"، والتي تتضمن تحديث أنظمة الملاحة الإلكترونية وتدريب الطواقم.
ويقول الباحث محمد حسان، المتخصص في النقل البحري: "بدلاً من ضخ الاستثمارات في البنية التحتية والسلامة، يتم إنفاق الأموال على مشروعات دعائية مثل تفريعة القناة التي لم تضف فعليًا إلى السعة الملاحية شيئًا يُذكر، وهو ما أكدته تقارير البنك الدولي".
في ظل هذه الحوادث المتكررة، يظل غياب الشفافية والمحاسبة أحد أبرز مظاهر سوء الإدارة في عهد السيسي، فلم يتم الإعلان عن تحقيقات مستقلة أو محاسبة أي مسؤول في أي من الحوادث السابقة، وفي المقابل، تستمر الحكومة في تسويق مشروعاتها داخل القناة كإنجازات وطنية دون تقييم حقيقي أو نقد داخلي.
نموذج للفشل المؤسسي
إن حادثة اصطدام السفينة برصيف القنطرة ليست مجرد خطأ ملاحي عابر، بل تمثل تجليًا صارخًا لفشل إداري مستمر في إدارة أحد أهم أصول الدولة المصرية، فرغم العائدات القياسية التي تحققها القناة، يعاني هذا المرفق الحيوي من تكرار الحوادث وغياب الشفافية وعدم المحاسبة، في ظل إعلام رسمي يضلل المواطنين ويعجز عن قول الحقيقة، ويبدو أن الحل الجذري لن يأتي من ترقيع المشكلات، بل من تغيير حقيقي في أسلوب الإدارة والسياسة العامة، وهو الأمر المستبعد تحت حكم الانقلاب.