رغم التشديدات المعلنة والتحذيرات الصارمة التي سبقت انطلاق ماراثون الثانوية العامة، عادت ظاهرة الغش الجماعي لتفرض نفسها بقوة مع الأيام الأولى للامتحانات التي بدأت في 15 يونيو الجاري، وسط اتهامات صريحة بتواطؤ بعض المراقبين وتراجع القبضة الأمنية داخل اللجان، ما أثار موجة من الغضب والاستياء بين الطلاب المتفوقين وأسرهم، وأعاد إلى الواجهة أسئلة قديمة متجددة عن عدالة التقييم وتكافؤ الفرص في أحد أهم مفاصل التعليم.
تسريب في الدقائق الأولى.. و"شاومينج" تعلن التحدي
في واقعة أثارت كثيراً من الجدل، تم تداول صور لأسئلة امتحان اللغة الفرنسية بعد دقائق من بدء اللجنة الرسمية صباح أمس الثلاثاء، عبر صفحات مخصصة للغش الإلكتروني أبرزها صفحة "شاومينج بيغشش ثانوية عامة"، والتي زعمت امتلاكها الامتحان ونموذج الإجابة الكامل قبل موعده الرسمي.
وزارة التربية والتعليم سارعت بالإعلان عن فتح تحقيق عاجل، وأكدت أنها تعمل على تتبع مصدر الصور المسربة عبر غرفة العمليات المركزية، في محاولة لضبط المسؤولين عن الواقعة، سواء من داخل اللجان أو من الطلاب.
المراقبون شركاء في الجريمة؟
رغم نفي الوزارة وجود خلل واسع النطاق، تتزايد الشهادات التي توثق حالة من التسيّب والتواطؤ داخل بعض لجان الامتحانات، حيث قال شهود عيان إن بعض المراقبين لا يكتفون بغض الطرف عن الغش، بل يطلبون من الطلاب المتفوقين مساعدة زملائهم الأقل استعداداً.
هذا ما حدث مع الطالبة سندس هـ.أ في لجنة بمدينة المنصورة، التي خرجت تبكي من اللجنة بعد أن طُلب منها، بلهجة آمرة، أن توزع إجاباتها على باقي الطلاب "تعاونوا لتنجزوا سريعاً"، بحسب ما نقله المراقبون.
سندس، التي تطمح في دخول كلية الطب، أعربت عن شعورها بالظلم وغياب العدالة، موضحة أن عامين من الاجتهاد والدراسة يمكن أن يذهبا سدى بسبب هذا المناخ الفاسد داخل اللجان، حيث يتم تكريم الغشاش بالصمت، ومطالبة المجتهد بالتضحية بثمرة تعبه.
تكنولوجيا الغش و"اللامبالاة الرسمية"
استخدام الطلاب لأجهزة حديثة مثل الهواتف المحمولة والساعات الذكية داخل اللجان، رغم إدراجها ضمن المحظورات الصريحة التي أعلنتها الوزارة.
ورغم أن الامتحانات تُعقد وفق نظام الاختيار من متعدد الذي صُمم لتقليل فرص الغش، إلا أن توافر أدوات الاتصال والتسريب الإلكتروني خفّض الحواجز، وسهّل تمرير الإجابات للطلاب داخل اللجان.
المراقبون يبررون: نحن بلا حماية!
أحد المراقبين، وهو معلم لغة إنجليزية رفض ذكر اسمه، قال إن كثيراً من المراقبين يضطرون للتساهل خوفاً من تعرضهم لاعتداءات أو ضغوط، خاصة في المناطق النائية أو التي تهيمن عليها العصبيات القبلية.
وأضاف أن بعض أولياء الأمور يوفّرون السكن والطعام للمراقبين مقابل التغاضي عن عمليات الغش، مشيراً إلى أن غياب الحماية من الوزارة وتجاهل الأمن لتلك الانتهاكات يدفع المراقب إلى القبول بـ"التعايش" مع الوضع.
قرارات شكلية لا تمنع التكرار
بحسب مصادر تعليمية، يبلغ عدد طلاب الثانوية العامة في مصر هذا العام نحو 768 ألفاً و353 طالباً، يتوزعون على الشعبتين الأدبية والعلمية.
وتُجرى الامتحانات في الفترة من 15 يونيو إلى 10 يوليو، وتشمل نظاماً جديداً يعتمد بنسبة 85% على أسئلة الاختيار من متعدد و15% للأسئلة المقالية في المواد الأساسية فقط.
وفي السنوات الماضية، أعلنت الوزارة عن إجراءات عقابية ضد الغش، شملت حرمان الطلاب من الامتحانات لمدة عامين، وخصم شهرين من رواتب المراقبين المتورطين، وحرمانهم من أعمال الامتحانات خمس سنوات.
إلا أن تكرار المشهد سنوياً يثير تساؤلات جدية حول فاعلية تلك العقوبات وجدّية تطبيقها على الأرض.
القوانين موجودة.. والواقع ينزف
تنص لائحة الامتحانات على منع دخول الهواتف والساعات الذكية والكتب إلى اللجان، وعلى أن طبع أو ترويج أسئلة الامتحانات يُعاقب عليه بالرسوب وحرمان الطالب من الدورين الحالي والمقبل.
لكن في الواقع، يتم خرق تلك القواعد بصورة شبه علنية في بعض اللجان، من دون رادع فعلي.
التعليم في مهب الريح
لا تتوقف خطورة ما يجري عند حدود تسريب الامتحانات أو تقويض مصداقية الثانوية العامة، بل تمتد إلى تهديد فكرة التعليم العادل نفسه، حيث يُجبر المتفوقون على التساوي قسراً بمن لم يبذلوا جهداً، ويُفتح الباب أمام القبول الجامعي غير النزيه، سواء عبر الغش أو عبر الجامعات الخاصة باهظة التكلفة.