تعيش الهند واحدة من أخطر التحولات الاجتماعية والديموغرافية في تاريخها الحديث، حيث تشهد نزوحاً صامتاً لملايين المسلمين من أراضيها، ليس فقط بدافع العمل أو تحصيل الرزق، بل بدافع النجاة. خلف هذا النزوح الجماعي تكمن قصة اضطهاد طويل الأمد، تزداد حدّته مع تنامي المد القومي الهندوسي في عهد رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزبه الحاكم "بهاراتيا جاناتا"، الذي يمسك بزمام الحكم منذ 2014.

يشكّل المسلمون نحو 15% من سكان الهند البالغ عددهم أكثر من 1.4 مليار نسمة، ويُقدَّر عددهم بحوالي 172 مليون شخص، ما يجعل الهند ثالث أكبر دولة من حيث عدد المسلمين في العالم بعد إندونيسيا وباكستان. لكن رغم هذا الثقل العددي، يواجه المسلمون في الهند واقعاً مريراً، يتجلّى في سياسات ممنهجة من التهميش والعزل والتمييز، تُمارس بحقهم من مؤسسات الدولة وأذرعها السياسية والإعلامية.

 

نزوح جماعي مدفوع بالخوف
بحسب مركز بيو للأبحاث، تأتي الهند كثاني أكبر بلد مصدّر للمهاجرين المسلمين بعد سوريا، وهو ما يُعد مؤشراً خطيراً في بلد لا يشهد نزاعات مسلحة أو حروب داخلية. ويعيش حالياً نحو 6 ملايين مسلم هندي في الخارج، يشكّلون أكثر من ثلث مجموع المهاجرين الهنود، وهي نسبة تفوق أي طائفة دينية أخرى في البلاد.

ويلاحظ الأكاديميون والمتابعون أن موجة الهجرة الأخيرة تختلف عن سابقاتها، فبينما كانت الهجرة في الماضي لأغراض مؤقتة مثل العمل في الخليج، فإنها اليوم تُبنى على رغبة في الاستقرار الدائم، بعيداً عن بلد بات المسلمون فيه يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.

"يريد الناس تربية أطفالهم في مجتمعات أكثر أماناً ومساواة"، يقول الدكتور نظام الدين أحمد صديقي، الباحث القانوني ومؤسس مشروع "مشكاة" المعني بالحوار الإسلامي. يضيف صديقي أن كثيرين ممن يعرفهم غادروا البلاد بعدما حُرموا من أبسط الحقوق مثل السكن والعمل والكرامة.

 

تصاعد القومية الهندوسية وخطاب الكراهية
منذ تولي مودي رئاسة الوزراء، شهدت الهند تصاعداً دراماتيكياً في العنف الطائفي وخطاب الكراهية ضد المسلمين.

ومن أبرز ملامح هذا التصعيد:

  • عمليات إعدام خارج القانون لمسلمين بتهمة ذبح الأبقار.
  • قوانين تمييزية مثل قانون تعديل المواطنة (CAA) الذي يستثني المسلمين من الحصول على الجنسية.
  • ضغوط على الهوية الإسلامية، بما في ذلك التضييق على المساجد والممارسات الدينية.
  • التحريض الإعلامي وشيطنة المسلمين في الإعلام ومواقع التواصل.
  • التمييز في فرص العمل والتعليم والسكن.

وقد دعت لجنة الولايات المتحدة للحريات الدينية في تقريرها لعام 2025 إلى تصنيف الهند كـ"دولة مثيرة للقلق بشكل خاص"، في ظل "انتهاكات منهجية وجسيمة للحريات الدينية".

دراسة محلية أفادت أن 44% من الشباب المسلمين في الهند تعرّضوا للتمييز بسبب دينهم، بينما أعرب 47% عن خوفهم من التعرض لاتهامات كاذبة بالإرهاب.

 

تجريف الهوية الإسلامية والمؤسسات الدينية
يرى كثيرون أن ما يجري يتجاوز مجرد اضطهاد اجتماعي ليصل إلى محاولة منهجية لطمس الوجود الإسلامي في الفضاء العام الهندي. من ذلك:

  • قانون السجل الوطني للمواطنين (NRC) الذي يفرض إثبات الجنسية أو مواجهة الترحيل.
  • الدفع نحو قانون مدني موحد (UCC) يهدد التنوع الديني في قوانين الأحوال الشخصية.
  • المساس بالممتلكات الوقفية وفرض رقابة على المؤسسات الإسلامية.

ومن الأحداث التي شكّلت نقطة تحول في هذا السياق هدم مسجد بابري في 1992، وتخصيص أرضه لاحقاً للهندوس بقرار قضائي في 2019، ما خلّف شعوراً عميقاً بالظلم لدى المسلمين.

ويقول صديقي: "كل أسبوعين، تندلع أزمة جديدة تستهدف الوجود الإسلامي، من نقاشات عن المساجد إلى قوانين مشبوهة، حتى بات من الصعب النضال على كل الجبهات".

 

الاستثمار في الهجرة.. والمستقبل في الخارج
تشير تقارير إلى أن نسبة كبيرة من طلبات الهجرة والتأشيرات في ولايات مثل تيلانجانا وكيرالا تصدر من مواطنين مسلمين. يقول خواجة محمد، صاحب وكالة سفر: "نحو 30% من عملائنا مسلمون، ويستثمرون بكثافة في دول مثل تركيا والإمارات، ما يدل على رغبتهم في الاستقرار الدائم هناك".

في المقابل، يرى البعض أن الدوافع ليست دينية فقط، بل تشمل الطبقة الاقتصادية أيضاً. يقول الأستاذ الجامعي أبورفاناند جاه: "من يهاجرون هم من يملكون الموارد، ومسلمو الهند جزء من هذه الطبقة".

لكنه يقر بأن "اليأس انتشر بين الشباب الذين فقدوا الثقة في مستقبل البلاد، سواء مسلمين أو غيرهم".

 

الأمل في العودة... مشروط بالعدالة
رغم كل شيء، لا تزال لدى كثير من المهاجرين آمال في العودة. توفيق أحمد، مهاجر مسلم يعيش في كندا، يقول إنه يريد العودة لرعاية والديه، لكنه يخشى على أمنه الشخصي. "الهند باتت مكاناً عدائياً للمسلمين. قد أعود يوماً، لكن إلى مدينة آمنة نسبياً، وليس إلى أوتار براديش التي يحكمها بهاراتيا جاناتا"، يقول توفيق.

ويرى صديقي أن أي أمل في المصالحة يجب أن يمر عبر إصلاح مؤسسي حقيقي ومحاسبة للانتهاكات، مشيراً إلى قول المؤسس الدستوري الهندي بي آر أمبيدكار: "الثقة هي حجر الأساس في بناء الأمة. وإذا فقدت، فلا مناص من إعادتها من جديد، لا من أجل الأقليات فقط، بل من أجل الهند كلها".