في وقتٍ تواجه فيه مصر أزمة مائية متفاقمة تهدد مستقبلها الزراعي والغذائي بسبب التوتر المستمر مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، تُصرّ حكومة عبدالفتاح السيسي، على المضي قدمًا في مشاريع عقارية عملاقة تُثير كثيرًا من علامات الاستفهام، ليس فقط من حيث أولوياتها الاقتصادية، بل أيضًا من حيث تأثيرها المباشر على موارد نهر النيل، المصدر الرئيسي للحياة في البلاد.
أحدث هذه المشاريع وأكثرها إثارة للجدل هو مشروع "جريان"، الذي يأتي امتدادًا لمشروع "الدلتا الجديدة" الزراعي، وتبلغ تكلفته التقديرية نحو 1.5 تريليون جنيه، المشروع السكني الفاخر، الذي تنفذه شركتا بالم هيلز وماونتن فيو، يمتد على مساحة 1600 فدان في منطقة الشيخ زايد غرب القاهرة، وتُطل واجهته بطول 9 كيلومترات على مجرى مائي مستحدث من فرع رشيد، أحد فرعي نهر النيل.
من النيل إلى "جريان": استنزاف ممنهج للمياه
رغم تأكيد السلطات أن "جريان" يخدم مشروعًا زراعيًا قوميًا، فإن ما تم الإعلان عنه يشي بمشهد مختلف. فالمشروع يحصل يوميًا على نحو 10 ملايين متر مكعب من مياه النيل عبر محور الشيخ زايد، الذي ينقل المياه من فرع رشيد إلى قلب المشروع الفاخر، والذي يتضمن 20 ألف وحدة سكنية فاخرة، فنادق عالمية، مراكز تجارية، وجزر خاصة لليخوت والفيلات.
الكاتب الاقتصادي مصطفى عبد السلام حذر من أن المشروع يستهلك ما يعادل 7 بالمئة من حصة مصر السنوية من مياه النيل، وهو ما يُنذر بتداعيات خطيرة في ظل سياسة تقشف مائي حكومية فرضت قيودًا صارمة على زراعات تقليدية مثل الأرز، بدعوى الحفاظ على المياه.
"مستقبل مصر": الجهاز الصاعد الذي يبتلع الدولة
المثير للجدل أن المشروع لا ينفذ فقط بالشراكة مع شركات عقارية خاصة، بل تشرف عليه بالكامل ذراع سيادية جديدة تُعرف باسم "جهاز مستقبل مصر"، وهي جهة شبه عسكرية أنشئت حديثًا بدعم مباشر من عبد الفتاح السيسي. ووفق ما كشفه رجل الأعمال ياسين منصور، فإن شركته "بالم هيلز" تمتلك 10% فقط من المشروع، بينما تعود 90% من الحصص لجهاز مستقبل مصر الذي يديره ضباط سابقون ويرتبط مباشرة بالمؤسسة العسكرية.
الجهاز الذي تأسس قبل 3 سنوات، توسّع بشكل غير مسبوق ليصبح واحدًا من أقوى اللاعبين في الاقتصاد المصري. فهو يدير اليوم أكثر من 14 بحيرة مصرية كبرى، ويشرف على 8 مشروعات زراعية عملاقة، ويسيطر على اختصاصات وزارات كاملة مثل الزراعة، التموين، الصناعة، التجارة، والري، بالإضافة إلى تحكمه في واردات القمح وبورصة السلع، واستلام المحاصيل من الفلاحين.
مشاريع ترف لا تُطعم المصريين
فيما تروج الحكومة والإعلام الرسمي لمشروع "جريان" باعتباره نموذجًا للتنمية المستدامة والحداثة، يرى خبراء اقتصاديون أن المشروع يُعمق الفجوة بين الطبقات، ويُكرّس ما بات يُعرف بـ"الاقتصاد الموازي العسكري"، الذي يعمل خارج الرقابة البرلمانية والقضائية، ولا يُحاسب على أولوياته أو نتائج مشاريعه.
الخبير المالي هاني توفيق، حذر مرارًا من أن مصر على أعتاب فقاعة عقارية ضخمة تهدد بانفجار اقتصادي، بسبب الإصرار على بناء مشروعات لا تستند إلى طلب حقيقي، وتُمول بأموال مقترضة في ظل أزمة مالية خانقة وديون خارجية تتجاوز 165 مليار دولار.
تسويق بملايين الدولارات وسط أزمة معيشية
بدأت حملات تسويق "جريان" قبل أسابيع عبر القنوات الفضائية المصرية، بأسعار تبدأ من 12 مليون جنيه للمتر، مع نظم سداد تمتد حتى 10 سنوات.
ويُطرح المشروع للجمهور في وقت تعاني فيه أغلبية الأسر المصرية من تراجع القدرة الشرائية، وتفاقم معدلات الفقر، وتدهور الخدمات العامة، خاصة في مجالات الصحة والتعليم والمياه.
تغول بلا رقيب
سيطرة "جهاز مستقبل مصر" على هذا المشروع وغيره من الأصول العامة تُعزز من هيمنة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد، وتُضعف من قدرة الدولة المدنية على التخطيط، والمساءلة، وإدارة الموارد وفق معايير التنمية المستدامة، وليس وفق أولويات الربح السريع والاستعراض العمراني.