يُعدُّ مشعر عرفات من أهم المشاعر المقدسة وأبرز محطات الحج، بل هو الركن الأعظم الذي لا يصح الحج إلا بالوقوف فيه، كما جاء في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، إذ يقف فيه الحجاج اليوم الخميس التاسع من شهر ذي الحجة، في مشهد إيماني مهيب، يوحد فيه ضيوف الرحمن مشاعرهم وقلوبهم متجردين لله سبحانه وتعالى.

 ويقع المشعر على بُعد نحو (18) كم2 من المسجد الحرام، و(10) كم2 من مشعر منى، و(6) كم2 من مشعر مُزدلفة، وَيقرب طول وعرض مشعر عَرفة ميلين، وهو سَهل مُنبسط مُحاط بسلسلة من الجِبال على شكل قوس، ويتسم بهدوئه وروحانيته التي تميّزه عن غيره من المشاعر، إذ لا تُقام فيه إقامة دائمة أو مبيت دائم، ويكون وقت الوقوف فيه من بعد زوال شمس يوم التاسع إلى فجر اليوم العاشر.

 ويحمل مشعر عرفات رمزية دينية عظيمة، حيث وقف عليه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وخطب خطبته الشهيرة التي أرست فيها المبادئ الكبرى لحقوق الإنسان، وأعلن فيها تمام الدين بقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا)، وهو ما يجعل من هذا المشعر موضعًا ذا بُعد إيماني وتشريعي في الوجدان الإسلامي.

 ويتجلى في يوم عرفة أعظم مظاهر المساواة والتجرد من الفوارق بين البشر، حيث يتساوى الجميع في اللباس والدعاء والتضرع، ويتّجهون نحو الله تعالى في موقف جامع تُرفع فيه الأيدي وتُسكب فيه العبرات، راجين عفوًا ورحمة وغفرانًا.

 

الميثاق

في صعيد عرفة، يجتمع الحجيج كل عام، يعود الإنسان إلى أصل الميثاق الأول، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}”.

وهذا هو الميثاق الذي أُخذ على بني آدم وهم في عالم الذر.

يجتمع الحجيج في كل عام في ذات المكان، يجددون هذا العهد، ويذكرون الناس به، ويكونون حجة على من عداهم من بني آدم شعارهم: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”، يقرون لله عز وجل بالوحدانية والربوبية، وأنه مالكهم وخالقهم، وهم عبيده يذعنون لأمره، ويسلمون وجوههم إليه.

 

يوم يباهي الله بأهل الأرض

لذلك يباهي الله عز وجل بأهل عرفات، الملائكة، فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟”، وفي لفظ آخر: اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم.

 

يوم أقسم الله به

يوم عرفة هو اليوم المشهود قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} (البروج: 3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة”.

وهو الوتر الذي أقسم الله به في قوله سبحانه: {والشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (الفجر: 3)، قال ابن عباس: الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة.

 

فضل يوم عرفة لغير الحجاج

فضل يوم عرفة لا يقتصر على الحجاج وحدهم؛ بل يشمل جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والموفقون من غير الحجاج يصومون ويذكرون، طلبا لرضا الله عز وجل.

 

صيام عرفة يكفر سنتين

صوم يوم عرفة يكفّر ذنوب سنتين، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم “صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده”.

والصوم له أجر عظيم، كما في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي”.

 

الذكر والدعاء

أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”.

وقد ثبت عن بعض السلف أنهم أجازوا “التعريف” وهو الاجتماع في المساجد للدعاء وذكر الله يوم عرفة، وممن فعله ابن عباس رضي الله عنهما، وأجازه الإمام أحمد وإن لم يكن يفعله.

 

العتق من النار

عندما تجتمع الطاعات في الأيام العشر الأول من ذي الحجة، تأتي الجائزة الكبرى مغفرة الله، وعتق الرقاب من النار، ويعقبها عيد المسلمين.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما مِن يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة”.

وقال صلى الله عليه وسلم: “ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام”.

 

اكتمال الدين وإتمام النعمة

يوم عرفة هو يوم إكمال الدين، حيث قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3).

وروى البخاري ومسلم أن رجلا من اليهود قال لعمر: “لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذنا ذلك اليوم عيدا”، فقال عمر: “قد علمت اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم الجمعة”.

 

 يوم عيد

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب”.

 

ساعات لا تُعوض

حين يجتمع يوم عرفة بيوم الجمعة، كما قد يحدث نادرًا، يتضاعف الفضل، ويجتمع نور على نور، ويكون في هذا اليوم 3 فرص عظيمة لاستجابة الدعاء: الصوم، ويوم عرفة، وساعة الإجابة من الجمعة.

وقيل إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف.

فلينتهز المسلم ساعات، يوم عرفات في التهليل والدعاء والاستغفار، فهي نفحات ربانية لا تتكرر في العام، فطوبى لمن أحياه بالطاعة، وفاز بالعتق، وأدرك النفحة.