في تطور جديد ضمن سياسات الحكومة المصرية بقيادة قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، أعلنت وزيرة التنمية المحلية، منال عوض، متابعتها المكثفة لملف التصالح في مخالفات البناء وتراخيص المحلات، مؤكدة في تصريحات صحفية بتاريخ 1 يونيو 2025 أن الدولة “حريصة على تقنين الأوضاع” و”ضبط المشهد العمراني”.
غير أن هذا الإعلان يأتي وسط تساؤلات عديدة حول الدوافع الحقيقية خلف هذا التحرك، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها البلاد، واعتبار شريحة واسعة من المعارضة أن الحكومة تستخدم هذا الملف كأداة للجباية تحت غطاء القانون.
لماذا الآن؟ التوقيت المريب لتحرك الحكومة
يثير توقيت متابعة الحكومة لملف التصالح علامات استفهام واسعة، لا سيما أنه يتزامن مع تصاعد الضغوط الاقتصادية على النظام، وانخفاض الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى أقل من 29 مليار دولار بنهاية أبريل 2025، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.
تأتي هذه الخطوة ضمن سياسة النظام الانقلابي الذي يتخذ من التصالح في مخالفات البناء وسيلة لجمع الأموال من المواطنين الذين يعيشون تحت ضغط اقتصادي خانق، حيث تم مد مهلة التقدم بطلبات التصالح لمدة 6 أشهر إضافية تبدأ من 5 مايو 2025، وفقًا لقانون التصالح الجديد رقم 187 لسنة 2023.
هذا التمديد يعكس رغبة النظام في استغلال حاجة المواطنين لتقنين أوضاعهم، خاصة مع ارتفاع أعداد المتقدمين، في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من أزمات متزايدة وتراجع في مستوى المعيشة.
ويأتي هذا في ظل غياب حلول حقيقية لمشاكل الإسكان والتنمية العمرانية، مما يجعل التصالح مجرد وسيلة لتمويل النظام بدلًا من معالجة جذور المشكلة.
كما يعاني المواطن المصري من تآكل القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار بنسبة تجاوزت 35% وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
فالنظام يسعى لابتزاز المواطنين بملف التصالح لتعويض عجز الميزانية المتفاقم، خصوصًا بعد توقف عدد من الشركاء الخليجيين عن ضخ استثمارات إضافية بسبب توترات سياسية وإخفاقات اقتصادية داخلية.
قوانين البناء: تشريعات مفصلة لخدمة المنظومة الأمنية
قوانين البناء في مصر، خاصة القانون رقم 119 لسنة 2008 وتعديلاته، تعاني من التعقيد والبيروقراطية المفرطة، وهو ما خلق بيئة خصبة لانتشار البناء المخالف أصلاً، بدلاً من إصلاح جذري، اختارت السلطات نهج التصالح مقابل المال.
التعديلات الأخيرة للقانون، التي أقرها البرلمان في يوليو 2023، سمحت بإمكانية تقنين الأوضاع بمبالغ تصل إلى 2000 جنيه للمتر في بعض المناطق، وهو ما اعتبره محللون اقتصادياً غير منصف، خاصةً في المناطق الشعبية والريفية.
ورأى الناشط الحقوقي جمال عيد أن "القانون فُصّل لخدمة جباية الدولة لا لتنظيم العمران"، مشيرًا إلى أن "التصالح يجب أن يكون وسيلة للعدالة، لا عقوبة جماعية".
عائدات التصالح: بين أرقام الحكومة وواقع المواطنين
في تصريحات رسمية، أعلنت الحكومة أنها جمعت ما يزيد على 27 مليار جنيه من التصالح في مخالفات البناء حتى نهاية 2024، مع توقعات بزيادة الرقم إلى 40 مليارًا خلال 2025.
هذا الرقم يعكس جهدًا واضحًا في الضغط على المواطن، دون أن يظهر أي تحسن ملموس في البنية التحتية أو الخدمات الأساسية في أغلب المناطق التي تمت فيها المصالحات.
ويتساءل مراقبون: أين ذهبت هذه الأموال؟ ولماذا لا تنعكس على الواقع المعاش؟
فيما قال رئيس حكومة الانقلاب الدكتور مصطفى مدبولي في أكتوبر 2024 إن “المصالحات جزء من إصلاح الاقتصاد المحلي”، لكن واقع الخدمات الصحية والتعليمية والطرق لا يشير إلى ذلك.
تراخيص المحلات: كابوس جديد
الربط بين ملف التصالح في البناء وتراخيص المحلات يوسع دائرة الشك في نوايا الحكومة، إذ يرى كثيرون أن النظام يستخدم التراخيص كوسيلة لإحكام السيطرة الأمنية والاقتصادية على الشارع.
فمع نهاية 2024، تم إغلاق أكثر من 80 ألف محل غير مرخص، حسب بيانات وزارة التنمية المحلية، ما تسبب في فقدان عشرات الآلاف من المواطنين لأعمالهم، في ظل انعدام بدائل حقيقية.
ويقول المحامي والناشط الحقوقي خالد علي: "النظام لا يعترف بالاقتصاد غير الرسمي إلا حين يريد فرض رسوم وضرائب عليه، لكنه لا يوفر له حماية قانونية أو أمنية".
حكم العسكر وتضييق الخناق الاقتصادي
منذ انقلاب 3 يوليو 2013، تحولت سياسات الدولة إلى ما يشبه إدارة شركات لا حكم دول، واليوم، ومع سيطرة المؤسسة العسكرية على معظم مفاصل الاقتصاد، من الإسكان إلى الأغذية، يبدو أن قرارات مثل التصالح وتراخيص المحلات لا تأتي في إطار إصلاح مدني، بل ضمن استراتيجية ممنهجة لتعظيم عوائد السلطة وتقليص هامش الحرية الاقتصادية.
والتصالح ما هو إلا وجه آخر من وجوه القمع، حيث يُخيَّر المواطن بين الدفع أو الهدم، في ظل غياب العدالة الاجتماعية ومحاسبة المسؤولين الحقيقيين عن الفوضى العمرانية التي نتجت أساسًا عن تواطؤ محليات وأجهزة تنفيذية على مدى عقود.