في مارس 2024، كشفت حكومة عبد الفتاح السيسي عن مشروع “جريان” كجزءٍ من “الدلتا الجديدة” الذي أعلنته رسميًا في أكتوبر 2021، ويسوّق النظام للمشروع على أنّه “مدينة عمرانية مستدامة” امتدادًا لخطابه حول “الجمهورية الجديدة”، بينما الواقع يقول أنه يأتي في سياق إعادة توزيع الثروات لخدمة النخبة العسكرية على حساب المواطن العادي.
يُطلَق على المشروع اسم “جريان” تيمّنًا بجريان نهر النيل، وتبلغ مساحته الإجمالية 1,600 فدان (6.8 مليون متر مربع)، منها 325 فدانًا مخصصة لمسار النهر الجديد داخل حدود المدينة، وهذه الأرقام توضِّح مدى ضخامة مساحة المشروع، التي قد تستوعب استثماراتٍ تتجاوز 50 مليار جنيه، في وقت يعاني فيه المصريون تبعات أزمةٍ اقتصادية وعجزٍ مائي حاد.
إهدار المال العام في ظل أزمة اقتصادية خانقة
إنفاق مئات المليارات من الجنيهات على مشروع “جريان” يتناقض مع أولويات المجتمع، خاصةً في ظل تضخّم الدين العام الذي قفز إلى 2030 مليار دولار بنهاية ديسمبر 2023، وفق بيانات وزارة المالية الرسمية.
في 15 نوفمبر 2024، قال النائب المعارض أحمد فهمي: “مشاريع مثل جريان تهدر المال العام بشكلٍ غير مسبوق، في وقت يعجز فيه المواطن عن تأمين رغيف خبز، ويحتاج القطاع الصحي إلى تمويلٍ ملموسٍ لتحسين الخدمات”.
ويفيد تقرير صادر عن مركز الدراسات الاقتصادية في يناير 2025 بأن تكلفة البنية التحتية فقط (طرق، وكهرباء، وشبكات صرف صحي) تتجاوز 20 مليار جنيه، فيما ذهبت أمورٌ كثيرة للشركات المُقربة من النظام العسكري دون مزايدات حقيقية، هذه الأرقام تجعل أي حديثٍ عن جدوى اقتصادية للمشروع مبنيًا على أوهامٍ أكثر من كونه خطة تنموية حقيقية.
استنزاف موارد مياه النيل
حذر اقتصاديون وسياسيون معارضون من استنزاف كمياتٍ هائلةٍ من مياه نهر النيل التي تُعدّ المورد الأوحد لدولةٍ تعاني منذ 2019 من تصنيف الأمم المتحدة كبلدٍ يعاني شحًّا مائيًا.
ففي 10 يناير 2025، قال الخبير المستقل د. محمد جلال: “استنزاف 325 فدانًا من مياه النيل داخل حدود جريان يكشف أن الحكومة تحوّل مياه الشعب لمشروعات فارهةٍ لا تخدم إلا مصالح الفئات المحدودة”.
يُقدَّر أن “جريان” سيحتاج إلى 100 مليون متر مكعب سنويًا من المياه للزراعة والخضر والشبكات الخضراء وحدها، دون احتساب الاستهلاك السكني والصناعي، في وقت تُعدُّ حصّة مصر الثابتة 55.5 مليار متر مكعب سنويًا.
في 20 فبراير 2025، أضاف النائب المعارض فؤاد إبراهيم: “هذا العبث يُفاقم أزمة سد النهضة ويهدد الأمن المائي للملايين”.
تأثيرات بيئية واقتصادية سلبية لا مبرر لها
ينتقد ناشطون بيئيون أن تحويل 1,600 فدانٍ من الصحراء إلى أراضٍ زراعية وصناعية في مدينةٍ ترتكز على الاستهلاك المكثّف للطاقة والوقود الأحفوري يتعارض مع أهداف التنمية المستدامة التي يُروّج لها النظام.
ففي 5 ديسمبر 2024، خرج الناشط البيئي عمرو الشامي بتحذيرٍ صريح: “التوسع العمراني والزراعي في جريان سيؤدي إلى تدهورٍ خطير في النظام البيئي الصحراوي، وسينتج عنه زيادةٌ في استهلاك الطاقة تصل إلى 25% مقارنةً بالبنية التحتية التقليدية”.
يضاف إلى ذلك تكاليف إنشاء الصوامع والمناطق الصناعية لتصنيع وتعبئة المواد الغذائية التي تُقدَّر بأكثر من 5 مليارات جنيه، فضلاً عن شبكات الطرق الممتدة لمسافة 60 كلم، مما يعني مقدارًا أكبر من الانبعاثات الكربونية.
علاوةً على ذلك، تشير دراسات محلية إلى أن المشروع قد يستنزف 15% من الطاقة المنتجة في مصر سنويًا بحلول 2030 إذا ما استمرت وتيرة التوسع الحالي.
غياب الشفافية ومشاركة المواطنين: أرقام بلا تفسير
منذ طرح المشروع في مارس 2024، لم تُعلن الحكومة عن أي تقييم بيئي أو اقتصادي مستقلٍ معتمد من جهات رقابية حقيقية.
في 8 يناير 2025، قال النائب المعارض سامح عبد الرحمن: “لا توجد دراسة واحدة منشورة حول كلفة المياه ومعالجتها وطاقة تشغيل المحطات والبنية التحتية، وكذلك لم يُستعرض الجدول الزمني الحقيقي لتنفيذ كل مرحلة”.
يستغل النظام العسكريّ الصلاحيات الأمنية للالتفاف على أي محاسبة، بحيث تُنجز العقود وتسلم الأراضي دون مناقصات حقيقية، فيما تؤول الأرباح للخزانة العسكرية.
كما نُقل عن اقتصادي مستقل في 12 فبراير 2025 تحذيره من أن “أي شفافية في أرقام المشروع ستكشف أن العائد المالي الحقيقي لا يتجاوز 1.5% سنويًا مقارنةً بالتكاليف الفعلية، وهي نسبة أقل من سعر الفائدة البنكية، مما يعني أن المشروع مشروع خاسر بامتياز”.
وفي تصريحٍ للناشط السياسي د. ماهر السيد بتاريخ 22 فبراير 2025، وصف المشروع بأنه “ذرّ للرماد في العيون لتفتيت غضب الشارع، بينما تستمر معاناة المواطن من غلاء الأسعار وفقر الخدمات والتعليم والصحة”.
أهم الانتقادات الموجهة لمشروع "جريان" ضمن الدلتا الجديدة،
- إهدار المال العام: فضخ مئات المليارات من الجنيهات في مشاريع مثل "جريان" والدلتا الجديدة يعد تبذيراً للمال العام في ظل أزمات اقتصادية حادة يعاني منها المواطنون، مثل ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات الأساسية.
- استنزاف موارد مياه النيل: يعتبر كثير من الخبراء والسياسيين أن المشروع يستهلك كميات كبيرة من مياه النيل، التي تعد المورد الأساسي لمصر، في وقت تعاني فيه البلاد من ضغوط شديدة على المياه بسبب التغيرات المناخية والخلافات الإقليمية حول حصص المياه، مما قد يؤدي إلى تفاقم أزمات المياه في المستقبل.
- تأثيرات بيئية سلبية: يشير بعض الاقتصاديين والبيئيين إلى أن تحويل مساحات شاسعة من الصحراء إلى أراضٍ زراعية وصناعية قد يؤدي إلى تدهور البيئة الطبيعية، وزيادة استهلاك الطاقة والموارد، مع مخاطر على التنوع البيولوجي.
- غياب الشفافية والمشاركة الشعبية: انتقد سياسيون عدم وجود حوار مجتمعي كافٍ حول المشروع، وغياب تقييم شامل لتكاليف وفوائد المشروع، مما يثير الشكوك حول جدواه الحقيقية ومردوده على المواطنين.
خلاصة: مشروعٌ يخدم النخبة
في النهاية، يبقى “جريان” نموذجًا صارخًا للاستخدام التجميلي للإنفاق العام تحت شعارات التنمية، وهو مشروعٌ لا يخدم المصلحة الوطنية الحقيقية، بل يوسّع رقعة الفساد ويركّز ثروةً هائلةً في جيوب شركاتٍ عسكريةٍ ومقربة، في وقت تشتد فيه الحاجة الحقيقية إلى تعزيز شبكة المياه الحالية وإنقاذ الزراعة التقليدية وتحسين جودة حياة المصريين البسطاء.